Commentary

مصر وإسرائيل وفلسطين

لا يزال العالم مصابًا بالذهول من مسلسل السياسية الجارية في مصر، وربما لم ينظر أحد في المنطقة بعناية كما نظر إلى العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي الوقت الذي يوجد فيه الكثير الذي يفت في عضد العلاقة بين القيادات الإسرائيلية والفلسطينية، إلا أنهما يشتركان بشكل كبير في ترسيم مستقبل مصر، فضلا عن عدم الارتياح المتزايد حول الكثير من ما شاهدوه حتى الآن.

بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين، أدى سقوط حسني مبارك إلى صعود القوى الإسلامية المعادية لإسرائيل والفراغ الأمني المتزايد على طول حدودها الجنوبية، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك على دوام معاهدة السلام الموقعة في العام 1979 بين مصر وإسرائيل على المدى الطويل. ويعد سقوط مبارك وصعود الإخوان المسلمين أمرًا مزعجًا بنفس القدر للمسؤولين الفلسطينيين في رام الله، حيث ضياع حليفهم العربي الأقوى وتقوية حركة حماس في غزة (لكون حماس فرعًا من جماعة الإخوان المسلمين). وقد زاد انتخاب محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين ليكون أول رئيس مدني منذ تشكيل الجمهورية المصرية قبل ستين عامًا خلت من حدة القلق في تل أبيب ورام الله على حد سواء.

وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه القول بالضبط ما الشكل الذي ستكون عليه سياسة مصر الخارجية، فمن غير المحتمل أن نرى في أي وقت قريب استمرارًا لسياسات التسوية التي كان يتبعها نظام مبارك أو تحولاً جذريًا في تعاملات مصر مع إسرائيل والفلسطينيين. ومن المتوقع أن تحدث تغييرات عميقة في الموقف المصري الإقليمي على المدى الطويل ولكن سيعتمد هذا على مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك النجاح النسبي للإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تجري حاليًا والاتجاهات في العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر والتطورات على الحدود الإسرائيلية الفلسطينية والحسابات الإقليمية الأخرى. وعلى الرغم من الفتور الذي لا مفر منه في العلاقات المصرية الإسرائيلية والأمريكية المصرية، إلا أن الفترة القادمة قد لا تكون كلها مشؤومة من حيث السلام العربي الإسرائيلي، شريطة أن يكون لدى إسرائيل والولايات المتحدة القدرة على إدراك النافذة الموجودة والاستفادة منها رغم ضيقها قبل أن تُغلق تمامًا.

هموم السياسة الخارجية
كثيرًا ما يُستَشهد بالغياب شبه الكامل للشعارات المناهضة لإسرائيل والولايات المتحدة أثناء انتفاضة التحرير التي دامت 18 يومًا كدليل مُطمئن على أن الثورة المصرية لم تكن تتعلق بإسرائيل أو الولايات المتحدة. وإن يكن، فمثل هذه الـتأكيدات ليست دقيقة بشكل كامل. فبينما يَندُر أن تكون مخاوف السياسة الخارجية هي الدافع للثورات الشعبية، إلا أنه بدلاً من الهموم الداخلية، فإن الثورة المصرية والمرحلة الانتقالية التي أعقبتها لا يمكن فصلهما عن إسرائيل والولايات المتحدة. فالتغيرات المرتبطة بالانتقال السياسي الجاري في مصر سيكون لها تأثير عميق على علاقة مصر بكلتا الدولتين في السنوات المقبلة.

ويُعد دعم القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل من الأشياء المتأصلة بعمق في الثقافة السياسية المصرية والوعي الوطني. وهذه قضية تتجاوز السياسات الحزبية وتُوحي بتوافق وطني واسع عبر كل الخطوط الأيديولوجية والسكانية، فالقضية الفلسطينية هي مسألة سياسة عامة بقدر ماهي مسألة هوية.

وبعيدًا عن التعاطف مع معاناة الفلسطينيين، فإن العداء لإسرائيل يُغذيه أيضًا التضحيات التي قدمتها مصر في الماضي بالدماء والمال: حيث خاضت مصر أربعة حروب مع إسرائيل أدت إلى مقتل عشرات الآلاف من المصريين ومليارات الدولارات نتيجة الدمار. وحتى بعد ثلاثة عقود من السلام الرسمي، مازال معظم المصريين ينظرون إلى إسرائيل كتهديد للأمن القومي وكعدو، ليس فقط للفلسطينيين بل لكل العرب.
ولم يقم نظام مبارك بفعل شيء يُذكر لمكافحة هذه المشاعر. بل في الحقيقة، قام هذا النظام بإثارة كراهية شعبية تجاه إسرائيل في محاولة لتعزيز شرعيته الداخلية. وفي بيئة تضمنت العديد من أشكال التعبير السياسي سواء مقيَدة بشدة أو محظورة تمامًا، إلا أن النظام بوجه عام كان متسامحًا مع الأنشطة المعادية لإسرائيل الداعمة للفلسطينيين، مادامت هذه الأنشطة بعيدة عن انتقاد النظام نفسه. وفي حقبة 2000، لم يعد ممكنًا الدفاع عن مثل هذا الفعل التوازني وما يسمى بـ “الحرب على الإرهاب”.

وفي العقد الذي أعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، جعل مبارك مصر حجر الزاوية لاثنين من أهم ركائز السياسية الأمريكية: الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب، وعملية السلام العربي الإسرائيلي— والتي صارت تقريبًا مع نهاية العقد أمرًا قابلاً للتغيير.

وقد وصلت عمليتا التنسيق الأمني الثلاثي وتبادل المعلومات الاستخباراتية إلى مستويات غير مسبوقة في أعقاب فوز حماس بالسلطة الفلسطينية في الانتخابات التي أُجريت في العام 2006. وقد أثار مبارك، من خلال جعل وجوده أمراً لا تستطيع أمريكا ولا إسرائيل الاستغناء عنه، تصورات بأن نظامه كان أكثر قليلاً من كونه امتدادًا للسياستين، الأمريكية والإسرائيلية. وقد أثارت الحملة التي شنتها إسرائيل على الانتفاضة الفلسطينية (انتفاضة الأقصى)، والتي بدأت في سبتمبر عام 2000، و2003، والغزو الأمريكي للعراق المصريين وباقي العرب وحشدتهم بشكل نادر الحدوث في السابق. فقد ازداد انتشار مبادرات التضامن الفلسطيني، وازدادت حملات مناهضة التطبيع والمقاطعة ضد إسرائيل، كما ازدادت المظاهرات الحاشدة ضد إسرائيل والولايات المتحدة في النصف الأخير من العقد، وذلك ردًا على حرب لبنان 2006، وحصار غزة، والحرب على غزة 2009 (حرب الرصاص المصبوب). وقد عملت أحداث هذا العقد كأساس لتدريب وإلهام الجماعات شبه الثورية، مثل حركة (كفاية)، وحركة (شباب 6 أبريل).

وهكذا، ومن المفارقات، أصبح النشاط الفلسطيني نوعًا من الأنواع الحاضنة للحركة الاحتجاجية التي أدت في نهاية المطاف إلى انتفاضة الخامس والعشرين من يناير 2011. فمن ناحية، كان المصريون يعبرون بالإنابة عن القهر الذي يتعرض له الفلسطينيون (وصراعهم من أجل الحرية في النهاية) وعن توقهم إلى حريتهم الخاصة. وفي الوقت نفسه، أصبح النشاط المؤيد للقضية الفلسطينية في مصر، إلى جانب المشاعر المناهضة لإسرائيل وأمريكا، بدائل للسياسات المناهضة للنظام، مُجسدًا بذلك الفجوة الآخذة في الاتساع بين الحاكم والمحكوم.
وبدلاً من العمل، نيابة عن الفلسطينيين، على تمهيد الساحة لعملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة، كما كان سيفُضل العديد من المصريين، توقعت الولايات المتحدة من مبارك المزيد من الضغط على القيادة الفلسطينية المتعثرة للمشاركة في المفاوضات الفاشلة والامتناع عن التصالح مع حماس.

ومن بين كل القضايا على الساحة الإسرائيلية الفلسطينية، لم يكن شئ أكثر شعبية عالميًا، أو أكثر إضرارًا لمبارك محليًا من غزة. فقد أصبحت صيحة استنفار لحركات المعارضة الموجودة مثل جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الحركات التي تكونت مؤخرًا. فطريق إغلاق الجانب المصري للحدود في وجه كل من التجارة الغزاوية وحركة المرور المدنية ووصول المساعدات الإنسانية، أصبح نظام مبارك متورطًا في الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة وفي حرب غزة لعام 2009.

وقد فعلت معاهدة السلام التاريخية المصرية الإسرائيلية أكثر من كونها مصالحة بين خصمين سابقين، فقد أكملت إعادة توجيه الإستراتيجية المصرية تجاه الولايات المتحدة. وفي حين أن أنور السادات كان هو من وقَّع على المعاهدة، إلا أن مبارك كان هو من نفذها وحافظ عليها وجعلها أحد أعمدة الموقف الإستراتيجي لـمصر في المنطقة. وعلى المستوى الرسمي، أبقى مبارك لمدة طويلة على موقف بارد، وصداميٍ أحيانًا، تجاه إسرائيل، إلا أنه كان يزيد بهدوء من عمق التعاون الأمني مع واشنطن وتل أبيب على كل المستويات. وهكذا، فعلى الرغم من السلام البارد المعروف الذي أبقى عليه مبارك، إلا أن القادة الإسرائيلين كانوا يعتبرون مبارك جائزة إستراتيجية.

وسواءً كان ذلك عدلاً أم لا، فإنه من المستحيل الفصل بين الإنعدام المتزايد لشعبية مبارك وشرعيته المحلية وبين علاقاته مع الولايات المتحدة وإسرائيل. فمن ناحية، كان يُنظر إلى كثير من سلوك مبارك على أنه قائم بناءً على طلب من الدولتين. ومن جهة أخرى، لم يلعب الدعم القَيّم الذي قدمته الولايات المتحدة سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا على وجه الخصوص، (والذي كان إلى حد كبير استجابة لاحتياجات إسرائيل) أي دورٍ ولو صغير في الحفاظ على الديكتاتورية المصرية.

إسرائيل وفلسطين ومصر “الجديدة”
استمرت المشاعر المؤيدة للفلسطينيين، والمناهضة لإسرائيل في تحريك السياسة المصرية بعد الانتفاضة. فقد أصبحت الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل أمرًا شائعًا، كما أن مظاهرات ميدان التحرير أظهرت بانتظام الأعلام الفلسطينية ورموزًا أخرى. وأصبحت إسرائيل بمثابة كيس الملاكمة المريح للساسة ذوي الشعبية من مختلف ألوان الطيف الأيديولوجي، في حين تنافس المرشحون الرئاسيون على أيهم أكثر تعلقًا بالقضية الفلسطينية.

وهناك حادثتان جديرتان بالذكر. أولهما، اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة في التاسع من سبتمبرعام 2011، من قِبل المحتجين الغاضبين بسبب مقتل عدد من جنود حرس الحدود المصريين أثناء إحدى العمليات الإسرائيلية ضد مسلحين في سيناء، وكان ذلك بمثابة نقطة تحول لكلا الطرفين. كما أن هذه الحادثة، والتي أدت إلى إجلاء السفير الإسرائيلي وطاقمه من البلاد، كانت إشارة إلى الإسرائيليين، والفلسطينيين، والأمريكيين على حد سواء بأن التغيير كان قادمًا. وقد أدانت جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الأحزاب السياسية اقتحام السفارة واعتبروه فعلاً غير لائق من دولة متحضرة.

وبعد ذلك، وفي مارس 2012، صوت أول برلمان مصري منتخب بطريقة حرة على طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، وهو استعراض نادر للتوافق في الآراء السياسية المصرية المنقسمة إلى حد كبير، وإشارة واضحة إلى المكان الذي وقفت فيه الطبقة السياسية في مصر وجهًا لوجه مع إسرائيل.

وبعد القيام بذلك، وافق البرلمانيون على نص أعلنوا فيه أن “مصر الثورة لن تكون أبدًا صديقًا، أو شريكًا، أو حليفًا للكيان الصهيوني، والذي نعتبره العدو الأول لمصر وللأمة العربية”. كما حث هذا النص الحكومة على “إعادة النظر في كل علاقاتها واتفاقاتها مع ذلك العدو”. وعلى الرغم من أن ذلك كان مجرد نص رمزي، نظرًا لأن البرلمان كان يفتقر إلى السُلطة في الأمور الدبلوماسية، إلا أنه لم يكن مطمئنًا لإسرائيل.

وبالرغم من اللهجة الشديدة التي كانت تخرج من القاهرة، إلا أن التغيرات الفعلية في السياسات المصرية تجاه إسرائيل والفلسطينيين بعد مبارك كانت قليلة جدًا. وكان أعضاء المجلس العسكري، الذين كانوا يحكمون مصر مؤقتًا آنذاك، قد صرحوا بأنهم سيُبقون على جميع الالتزامات الدولية لمصر، بما في ذلك معاهدة السلام مع إسرائيل—وهو ما فعله أيضًا معظم الأحزاب السياسية المصرية، العلمانية منها والإسلامية. وتواصل مصر دعمها لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية (كما هي) ولإيجاد تسوية للصراع بين الدولتين، كما تبقى الداعم الأساسي للسُلطة الفلسطينية في رام الله.

أما التطورات الجديدة والوحيدة التي بدأت في الظهور في مصر منذ سقوط مبارك فهي اتفاق المصالحة بين فتح وحماس والفراغ الأمني المتزايد في سيناء، وكلاهما لا رجعة فيه. وحتى حصار غزة، والذي لا يحظى بشعبية كبيرة، هو نفسه الذي كان موجودًا في ظل حُكم مبارك، بالرغم من حدوث بعض التغيرات في إدارة معبر رفح.

والأهم من ذلك، استمر التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي خلال مرحلة الانتقال السياسي المضطربة في مصر على الرغم من ارتفاع حِدة التوتر على جانبي الحدود.

في الواقع، يظل التوجه العام للسياسة الخارجية لمصر مُشابهًا بشكل ملحوظ لذلك الذي كان أيام حُكم مبارك، بما في ذلك الشراكة الإستراتيجية الوثيقة مع الولايات المتحدة والتعاون مع المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الأخرى (بالرغم من العداء المفتوح من هذه الدول تجاه الانتفاضة المصرية). ولا يجب أن يكون ذلك بالأمر المستغرَب، نظرًا لأن المجلس العسكري بوجه عام وجهاز المخابرات بوجه خاص استمرا في التحكم بسياسة مصر الخارجية وكذلك أمنها القومي. في حين أن كلمة الإسلامييِن فيما يتعلق بحُكم البلاد أثناء الفترة الانتقالية كانت أقل من كلمتهم فيما يتعلق بصياغة السياسة الخارجية. وربما كان أكثر تغيّر جوهري خرجت به الانتفاضة المصرية، والذي سوف يكون من بين الأمور التي سيصعب ردعها، هو الأهمية المتزايدة للرأي العام، والذي يُعد الآن قوة لم يسبق لها مثيل في السياسة الداخلية حتى في صُنع السياسات. وقد كان وزن الرأي العام واضحًا خلال المرحلة الانتقالية. فإلى جانب التصويت على طرد السفير الإسرائيلي، على سبيل المثال، كانت هناك مواقف شعبية تبنتها الحكومة غير المنتخبة، والتي عينها المجلس العسكري، مثل موقف رفض قروض البنك الدولي والضجة التي أعقبت الإفراج عن الأمريكيين الذين كانوا يعملون في المنظمات غير الحكومية. ويُحتمل أن يكون لمواقف المصريين العاديين تأثير أكثر وضوحًا على السياسيين بأنهم صاروا مسؤوليين أمام ناخبيهم.

القصور الذاتي في معاهدة السلام
قد يؤدي صعود الإسلاميين، الذين يحكمون الآن أهم دولة في العالم العربي، إلى إعادة توجيه السياسة الخارجية في الوقت المناسب. وهناك ثلاثة أسباب لتَوقع مزيد من الاستمرارية بدلاً من التغيير، بغض النظر عمن يحمل مقاليد السُلطة.

السبب الأول، أن الشعب المصري منهمك ببساطة شديدة في القضايا الداخلية لدرجة أنه لا يتطلع إلى أجندة طموحة في سياسته الخارجية. فبالرغم من تسليم السُلطة المفترض في 30 يونيو إلى الرئيس المنتخب، إلا أن المرحلة الانتقالية المضطربة التي تمر بها الدولة لم تنتهي. وعلى النقيض من ذلك، فإن انتخاب شخصية استقطابية للغاية مثل مرسي و محاولات المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبقاء في السُلطة، كل ذلك يُوحي بأن الانتقال الديمقراطي في بدايته على أفضل الأحوال، ومُؤَجلٌ إلى وقت غير مُسمى في أسوأ الأحوال.

وفي هذه الأثناء، ومع بقاء مصير كل من البرلمان وعملية صياغة الدستور مُعلقين في الهواء، فمن المرجح أن يستمر الصراع الثلاثي بين المجلس العسكري والإسلاميين والقوى الثورية على السُلطة في مصر إلي بعض الوقت. ويتسبب تهديد الاضطرابات الشعبية، وهو تهديد غير مسبوق، إلى جانب الاقتصاد المترنح بشكل خطير في زيادة حالة الشك واستمرار حالة عدم الاستقرار. ونتيجة لكل ذلك، ستبقى شؤون السياسة الخارجية في المقعد الخلفي للقضايا الداخلية، مثل الاقتصاد والأمن: ومثل كثير من الطموحات التي لم تتحقق للثورة المصرية، فإنه من الواضح أن مصر ستُضطر إلى الانتظار حتى تعاود الظهور كلاعب ديناميكي وكقائد للعالم العربي.

كما أن غياب الاختلافات الهامة في الرأي بين المصريين، سواءً على المستوى الشعبي أو على المستوى السياسي، يؤيد أيضًا فكرة الاستمرارية. فعلى الرغم من الطبيعة المنقسمة للسياسة المصرية، إلا أن هناك توافق واسع النطاق إلى حد ما عبر خطوط اجتماعية وسياسية وأيديولوجية في قضايا السياسة الخارجية بشكل عام وفي القضايا المتعلقة بإسرائيل وفلسطين على وجه الخصوص. وبينما ينقسم المصريون بشكل عام حول تأثير معاهدة السلام (كامب ديفيد) إيجابيًا كان أم سلبيًا، إلا أن استطلاعات للرأي أُجريت مؤخرًا وأظهرت أنه لا يزال هناك تأييد بين القوى السياسية الكبيرة (الرئيسية) – الإسلاميين والقوميين واليساريين والثوريين- للإبقاء على المعاهدة في حال تزايد طريقة المعاملة بالمثل وازدياد التوازن. وأهم التغيرات التي يود المصريون رؤيتها في العلاقة مع إسرائيل هي الترتيبات الأمنية في سيناء وبيع الغاز لإسرائيل ومعاملة إسرائيل للفلسطينيين بوجه عام.

وفي النهاية، فإن العامل الأكثر أهمية في السياسة المصرية نحو إسرائيل وفلسطين على المدى القصير إلى المتوسط سيكون المجلس العسكري المصري. حيث سيستمر الدور الفعلي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة لبعض الوقت. فبالإضافة إلى الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية الهائلة، سعى جنرالات العسكري الحاكمون لمصر مرارًا إلى الحصانة من الرقابة الحكومية، ومن التدقيق في الميزانية، وحتى من المقاضاة، مع الاستمرار في التحكم بالوظائف الحكومية الرئيسية. وسواء تم أو لم يتم تدوين هذه الإعفاءات في الدستور في النهاية، فقد جعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الأمر واضحًا– وكان آخرها “الإعلان الدستوري المكمل” أحادي الجانب، والذي أوضح فيه أنه يسعى إلى الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على السياسة الخارجية لمصر، بما في ذلك الدفاع والأمن القومي، والاستخبارات، إضافة إلى حقائب وزارية سيادية أخرى مثل وزارتي العدل والداخلية. إنه الواقع أكثر من أي شئ آخر هو الذي منع حالة كاملة من الذعر في الجانب الإسرائيلي، حتى بعد انتخاب قيادي جماعة الإخوان المسلمين كرئيس للدولة.

نعم لمعاهدة كامب ديفيد، ولكن مع التغييرات
من المرجح أن تُركز السياسة المصرية تجاه إسرائيل وفلسطين في السنوات القادمة على ثلاث نقاط. أولاً، ستُبقي مصر على معاهدة السلام مع إسرائيل ولكنها ستسعى في النهاية إلى تعديلات معينة— وهو شئ دعت له مسبقًا معظم الأحزاب المصرية، العلمانية منها والإسلامية. ويُعد الوضع في سيناء هو التغيير الأكثر ترشيحًا في هذه المعاهدة، فهو أمر مثير للقلق الشديد بالنسبة للإسرائيليين والمصريين على حدٍ سواء. حيث ينظر كل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والجماعات السياسية، الإسلامية منها والعلمانية، على حدٍ سواء إلى القيود التي فرضتها معاهدة كامب ديفيد فيما يتعلق بقدرة القوات المصرية على الانتشار في سيناء باعتبارها إهانةللسيادة المصرية والكرامة الوطنية. وفي الوقت نفسه، هناك مخاوف طويلة الأمد بأن إسرائيل تسعى إلى دفع قطاع غزة سياسيًا وسكانيًا داخل مصر. ومن جانبهم، يخشى الإسرائيليون من أن تصبح سيناء، التي ينعدم فيها الأمن بشكل متزايد، ملاذًا للمتطرفين الجهاديين على حدودها الجنوبية ولعمليات تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة الواقع تحت سيطرة حماس.

وتعترف السُلطات المصرية بالمشاكل الأمنية في سيناء. لذا، فقد بدأوا بشن حملات أمنية صارمة ضد الميليشيات المسلحة هناك، لكنهم بنفس القدر يشعرون بالقلق من احتمال حدوث إجراءات إسرائيلية غير مشروعة. وبالرغم من مخاوفهم المشتركة المتعلقة بالمنطقة، إلا أن القادة الإسرائيليين ينفرون من إدخال تغييرات على المعاهدة. وحتى مع ذلك، فإن إعادة التفاوض بشأن بعض جوانب المعاهدة قد يكون من المصالح بعيدة المدي لإسرائيل، ليس فقط لمعالجة مصدر رئيسي للقلق الأمني، ولكن أيضًا من خلال جعل الحكام الحاليين لمصر أطرافًا معنية بشكل مباشر في المعاهدة.

ثانيًا، من المرجح أن تُركز السياسة المصرية على المصالحة بين الفصائل الفلسطينية بدلاً من التركيز على معاهدة السلام. وبقدر ما تكون مصر مشتركة في الشؤون الإسرائيلية الفلسطينية، سيكون الأمر مقصورًا على المناطق التي يـتأثر أمنها القومي بها بشكل مباشر. وبالتالي، فمن المرجح أن نرى تركيزًا أقل على المفاوضات مع إسرائيل ومزيدًا من التركيز على منع العنف الإسرائيلي الفلسطيني وعلى تعزيز المصالحة الفلسطينية الداخلية. وهناك أسباب عملية سياسية أيضًا لهذا. فقد أدى فعلاً الغياب الواضح لأي مفاوضاتِ سلاٍم ذات معنى إلى تركيز العديد من الأطراف المعنية على تفادي الأزمة من خلال تسوية الصراعات. ومن جانبهم، سيكون المصريون أكثر ميلاً للتعامل مع أزماتهم على الحدود الشرقية من ميلهم للتعامل مع تلك الانحرافات.

وحتى جماعة الإخوان المسلمين، والتي قد تجد نفسها في مواجهة ضغوطات جديدة من كلٍ من المجلس العسكري والثوريين الغاضبين، ستجد نفسها عاجزة عن فعل أي شئ للقضية الفلسطينية غير التشدق بالكلام— ناهيك عن حماس. وبالرغم من أن حماس تبقى هي المستفيد الأكبر من نجاح جماعة الإخوان، إلا أن إحساسها الحالي بالانتصار قد يكون قصير الأمد. فالانتقال المطوّل والصعب الذي تَمُر به القاهرة سيترك المصريين بصفة عامة والإخوان بصفة خاصة أكثر ميلاً لإبقاء الأمور هادئة على طول حدودها الشرقية. والأهم من ذلك، في حين أن المزيد من التسهيلات في حصار غزة أمر ممكن حدوثه بالتأكيد، إلا أن الفتح الدائم للحدود، والذي نادى به قادة حماس، ربما لن يكون في المستقبل القريب.

وقد اتخذت جماعة الإخوان خطوة في هذا الاتجاه. فالبرغم من العلاقات الحيوية مع حماس، إلا أن الجماعة قد اتخذت في الفترة الانتقالية موقفًا محايدًا نسبيًا بشأن الخلاف الأخير مع حركة فتح. وقد يكون هذا راجعًا إلى الرغبة في تجنب المواجهة مع المجلس العسكري، وكذلك مع الولايات المتحدة، أو قد تكون جزءًا من محاولة محسوبة لإثبات مصداقيتها باعتبارها محاورًا مستقبليًا. وتأتي حيادية جماعة الإخوان المسلمين في وقت يلعب فيه النظام العسكري الحاكم، والمخابرات العامة المصرية على وجه التحديد، دورًا أكثر توازنًا في التوفيق بين الفصيلين الفلسطينيين. وفي خطاب تنصيبه، تعهد الرئيس مرسي ليس فقط بدعم الحقوق الفلسطينية، ولكنه أوضح أيضًا أن المصالحة الوطنية الفلسطينية شرط أساسي للشعب الفلسطيني لاستعادة أراضيه وسيادته.

ويتطلب الهدوء في قطاع غزة تسوية سياسية على كٍلا المسارين، حماس وإسرائيل، وحماس وفتح. إلا أن احتمال المصالحة التي تتوسط فيها مصر بين فتح وحماس لا يروق لإسرائيل، والتي تعتبر حماس جماعة إرهابية ولا تقبل إدراجها في الحُكم الفلسطيني. ومن ناحية أُخرى، يمكن لإسرائيل أن تستفيد من حقيقة أن مصر متحمسة لمنع أي حرب واحتواء الصراعات على طول حدودها الشرقية. وقد كان هذا واضحًا في الوساطة التي قامت بها مصر في هدنة غزة مارس 2012، والتي أنهت أربعة أيام من القتال بين الإسرائيليين والمسلحين الفلسطينيين، وكذلك في الاتفاق الذي أنهى إضرابًا جماعيًا قام به السجناء الفلسطينيون في مايو 2012.

والحقيقة بأن جماعة الإخوان تميل للضغط على حماس للتصالح مع فتح ووقف إطلاق النار مع إسرائيل لا تعني بالضرورة أن حماس ستمتثل لذلك. فبينما تمتلك جماعة الإخوان تأثيرًا واضحًا على حلفائها الإسلاميين في فلسطين، ربما تأثير هائل، إلا أنها ليست في وضع يسمح لها بإصدار الأوامر إلى قادة حماس سواءً في داخل أو خارج القطاع. وقد يكون استعداد حماس للمضي قُدمًا مع التفضيلات المصرية استعدادٌ يعتمد على ما يمكن أن يقدمه مرسي وجماعة الإخوان لحماس على الصعيد السياسي. وحيث إن الفتح الكلي للحدود ليس مرجحًا في الوقت الحالي، فقد تسعى حماس لطلب المساعدة من الإسلاميين في مصر.

أما المحور الثالث المتعلق بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني فهو محور يشمل العلاقات المصرية مع الولايات المتحدة. فالبرغم من أن التحالف سيبقى سليمًا، إلا أن هناك تسارع في حدة التوترات التي كانت قد بدأت قبل وقت طويل من انتفاضة 2011. حيث إن الجهود المصرية المبذولة للضغط من أجل الوحدة الفلسطينية أو من أجل تغييرات في معاهدة السلام قد تُوتر العلاقات إلى ما هو أبعد من ذلك. وفي كل الأحوال، من المرجح أن يستمر التنسيق الأمني مع كل من أمريكا وإسرائيل خلال السنوات القادمة.

في غضون ذلك، من المرجح أن يزداد التعقيد في عملية التوازن ا التي تُبقي عليها الولايات المتحدة مع حكام مصر العسكريين من ناحية ومع المسؤولين المدنيين المنتخبين (وبخاصة الإسلاميين حتى الآن) من ناحية أخرى وتصبح عملية غير مريحة في السنوات المقبلة. فلا يجب على كل جانب أن يتعامل مع دوائره الداخلية، التي لا تزال تعارض بشدة أي حوار بين الولايات المتحدة والإسلاميين، وفقط، بل يجب أيضًا أن يتعامل كل منهم برفق حتى لا يَنفُر السياسيون في كلتا الدولتين. وسيكون ذلك الأمر صعبًا وبخاصة على الإدارة الأمريكية، التي لا يجب عليها أن توازن بين المجلس العسكري وبين الرئيس الإسلامي وفقط، ولكن عليها أيضًا أن توازن بين هاتين القوتين المركزيتين وبين الجماعات العلمانية والليبرالية أيضًا.

التطلع إلى الأمام
على المدى البعيد، ينبغي علينا أن نتوقع رؤية تغييرات أعمق بكثير في التعاملات المصرية مع إسرائيل والفلسطينيين، على الرغم من أن تضييق الفجوة بين مشاعر الرأي العام وسياسة الحكومة سيستغرق وقتًا. وهذا يفترض، بالطبع، أن نوعًا من التحول الديمقراطي، غير المُطمئن بالنظر إلى التطورات الأخيرة، لا يزال يحدث، ولكنه ليس مستبعدًا تمامًا. وعلى أية حال، وبحسب المدى الذي سيصل إليه هذا التحول، يمكننا أن نتوقع رؤية تغييرات تدريجية في الرأي العام وسياسة الحكومة في وقت واحد، بدلاً من التحولات المفاجئة، والكبيرة في تحولٍ أو آخر.

وقد أظهر كل من جماعة الإخوان المسلمين والجماعة السلفية المحافظة القدرة على الوصول لحل وسط، ولا سيما الإخوان. ففي الواقع، خضع خطاب جماعة الإخوان المسلمين المتعلق بإسرائيل والفلسطينيين لتحول كبيرٍ خلال الفترة الانتقالية، حتى قبل أن يحصلوا على أغلبية في البرلمان. وتـُعد خطة الإصلاح الشامل في البرنامج الانتخابي لجماعة الإخوان من 2010 إلى 2011 خطةً مذهلة بشكل خاص. فبينما يحتوي كلا البرنامجين على الإشارات القياسية لـ (العدو الصهيوني)، إلا أن برنامج 2011، والذي أصدره حزب الحرية والعدالة الجديد، أكثر أُلفة، وأسقط معظم الإشارات الحارقة لإسرائيل، مثل “مغتصبي المسجد الأقصى”، كما ألغى القسم الخاص “بالقضية الفلسطينية” تمامًا. حتى اللغة المناهضة للحصار تمت تهدئتها بشكل كبير لدرجة أنها لم تعد تذكر قطاع غزة باسمه. وسواءً كانت هذه التغييرات تدل على تطور سياسي حقيقي أم هي مجرد تجميل وتكتيك، فالوقت وحده هو من سيخبرنا بذلك. الأهم من ذلك، أن تطور السياسة المصرية تجاه إسرائيل وفلسطين—على مدى خمس سنوات إلى عشرين سنة مقبلة— سيعتمد على عوامل عديدة، بما في ذلك الإصلاح الاقتصادي في مصر.

إلى أي مدى يظل المجلس العسكري يشارك في المجال السياسي، والطريقة التي سيتراجع بها في نهاية المطاف عن هذه المشاركة، كل ذلك سيؤثر بالـتأكيد على المدى الطويل على الموقف المصري تجاه إسرائيل وفلسطين. وبعد أن شهدنا نكسة كبرى في الانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي، فإن فُرص الدفع بالمجلس العسكري خارج الحياة السياسية في المستقبل القريب ليس بالأمر الواعد، بالرغم من أنه ليس مستحيلاً. وفي حين أن الحُكم العسكري المتواصل قد يبدو جيدًا لإسرائيل على المدى القصير، إلا أنه في النهاية غير دائم. وعلى الرغم من أن الحكومة المدنية ستعكس بدون شك عدائية شعبية لإسرائيل، إلا أنها أيضًا أكثر عُرضة لاتباع مسارٍ رشيد في العمل.

كما أن نجاح أو فشل الانتعاش الاقتصادي في مصر سيؤثر أيضًا على مستقبل العلاقات مع إسرائيل وفلسطين. وسيعطي التحسن الاقتصادي مصرَ المساحة لتلعب دورًا دبلوماسيًا أكثر نشاطًا داخل المنطقة وخارجها، ويمكنها أن تقلل من اعتمادها الكلي على المساعدات الأميركيةالغربيةالسعوديةالخليجية. ومن ناحية أخرى، ستطيل الصعوبات الاقتصادية المستمرة من الركود الدبلوماسي لمصر وربما المزيد من الكراهية الشعبية للأجانب.

وبالطبع سيعتمد الموقف المصري المتعلق بإسرائيل وفلسطين على مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية. وبالرغم من التوترات الأخيرة، والدعوات المتزايدة في كلٍ من واشنطن والقاهرة بالتخلص التدريجي من الشراكة الإستراتيجية، إلا أنه من المرجح أن يستمر التحالف إلى المستقبل القريب. ومع ذلك، فإنه بمرور الوقت، وبغض النظر عمن يحكم مصر أو أي حزب سيصل إلى السلطة، ستصبح السياسة الخارجية المصرية أكثر استقلالية وحزمًا، مما يُنشئ نوعًا من التخلي عن الطرق الحتمية. وفي هذه الحالة، سيكون من المعقول أن نتوقع للعلاقات العسكرية بين أمريكا ومصر أن تكون آخر شئ يمكن خسارته.

ومن المرجح أن يستمر التطور السياسي لجماعة الإخوان المسلمين (أو أي حركة أو حزب ناجح قد يخرج منها) ولقوى إسلامية أخرى إلى أمدٍ طويل. ومع ذلك، فإن هذه الاستمرارية تعتمد إلى حد كبير على نجاح أو فشل التجربة الديمقراطية في مصر بالإضافة إلى الاستجابات الغربية والإسرائيلية للنجاح الإسلامي. وحيث إن التراجع الديمقراطي قد يكون له تأثير غير مناسب على الإسلاميين (كما هو الحال في حل البرلمان)، فإن العودة إلى الاستبدادية أو إطالة أمد الحكم العسكري قد يزيدهم تطرفًا أكثر من التيارات السياسية الأخرى. وبالمثل، فإن استئناف العداء الأمريكي للإسلاميين من النوع الذي شهدناه في العقد الماضي، أو تصعيد الخطاب الإسرائيلي، كإشارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الإسلاميين باسم “التمساح الذي لا يشبع”، يمكن أن يستخدم فقط كوقود للمشاعر المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل.

وأخيرا، سوف تساعد التطورات على الصعيد الإسرائيلي الفلسطيني أيضًا في تشكيل الرؤية المستقبلية لمصر في هذا الشأن. كما أن الغياب المستمر للتقدم نحو حل شامل للصراع قد يزيد من شدة الكراهية وعدم الثقة المصرية على الصعيدين العام والسياسي تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل. وعلاوة على ذلك، فإن استئناف أعمال العنف الاسرائيلية الفلسطينية ذات النطاق الواسع، لا سيما إذا ما اشتملت على ضحايا فلسطينيين كـُثـُر، سوف يشعل مشاعر الرأي العام ويضغط على السياسيين المصريين ليقوموا بالرد. ومثل هذا السيناريو قد يُعيد ترسيخ الحكم العسكري (ربما مع موافقة الولايات المتحدة والغرب)، ويقوّض الانتعاش الاقتصادي، ويصبغ طبقة واسعة من السياسيين المصريين بصبغة الراديكالية. وفي حين أن اتفاق سلامٍ بين الإسرائيليين والفلسطينيين لن يُجبر المصريين على محبة إسرائيل أو الإسرائيليين، إلا أن ذلك سوف يساعد على وقف خزان متزايد من العداء والكراهية وكذلك على استعادة الثقة المصرية في الولايات المتحدة.

هل هناك فرصة للسلام؟
شهدت عملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني ركودًا طويلاً قبل الربيع العربي. باستثناء فترة وجيزة في السنة الأخيرة من إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، لم تحدث أي مفاوضات جادة بين الطرفين طوال العقد السابق. وقد أدت خسارة مبارك والصعود السريع للإسلاميين في مصر وغيرها إلى جعل التسوية عن طريق التفاوض أمرًا أقل جاذبية لنتيناهو وأكثر إلحاحًا لمحمود عباس.

وبينما لا يبدو كل من الرئيس الإسلامي في مصر، والحكومة المتشددة في إسرائيل، و القيادة الفلسطينية المقسمة وكأنهم المكونات اللازمة لتحقيق انفراجة دبلوماسية، لا سيما على خلفية تراجع النفوذ الأمريكي والاضطرابات في المنطقة، فإن التشحيص لا ينبغي أن يكون سلبيًا تمامًا. وهذا المفهوم لا يقوم على قراءة متفائلة للواقع الحالي، ولكن على نظرة واقعية للاحتمالات المستقبلية. أي، إذا كان الوضع يبدو اليوم سيئًا من المنظور الإسرائيلي، فليس هناك سبب للاعتقاد بأنه سيكون أفضل في المستقبل، ولو حتى عندما تهدأ الأمور. مثل هذه القراءة ينبغي أن تكون حافزًا لمزيد من الاستكشاف الجاد للإمكانيات الموجودة.

بالرغم من أن انتخاب مرسي بالكاد يمثل تفويضًا للمشروع الإسلامي، من المرجح أن يظل الإسلاميون لاعبين أساسيين في الحياة السياسية المصرية لبعض الوقت. وبغض النظر عن أيدولوجيته الإسلامية، فإن وجهات النظر الخاصة بالرئيس الحالي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وبالأخص فيما يتعلق بالقضية الإسرائيلية الفلسطينية، هي ذات وجهات النظر السائدة بين المجتمع المصري. وعلى أية حال، وبصرف النظر عن من بيده مقاليد السلطة الآن (مرة أُخرى، على افتراض أن التحول الديمقراطي ليس ممنوعًا)، من المرجح أن تصبح السياسة المصرية أكثر استجابة للرأي العام، ليس أقل من ذلك. وحين تستقر مصر سياسيًا واقتصاديًا بمرور الوقت، من المرجح أن تزيد مشاركتها في التعاملات الخارجية بدلاً من أن تنخفض، وكذلك أيضًا حين يتراجع الجيش عن دوره السياسي. وليس هناك تيار في أي مكان في المنطقة يؤيد التأجيلات الإسرائيلية في الوصول إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين.

وأي تكوين سياسيٍ مستقبليٍ في سوريا بعد رحيل بشار، على سبيل المثال، سيشتمل في الغالب على فريق قوي من جماعة الإخوان المسلمين السورية، والتي هي بالفعل قوة رئيسية داخل حركة المعارضة هناك.

لكن، لا شيء من هذا يعني أن حدوث انفراجة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بات أمرًا وشيكا، أو مُحتملاً حتى. من الممكن الشروع في عملية سلام ذات مصداقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين حتى في ظل الظروف الحالية. ومع ذلك، فإن أية مبادرة جادة على هذا الصعيد تتطلب إرادة سياسية كبيرة، واستثمارًا من جانب الولايات المتحدة، كما تتطلب أيضًا قدرًا من الاستقرار في المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر. وبالرغم من عدم وجود أيٍ من هذه الشروط في الوقت الراهن، إلا أنه ليس من المعقول ألا يتحقق واحد منها أو كلها مع نهاية 2012 أو مطلع 2013.

على الأقل، تقدم الانفراجة الحالية فرصةً للولايات المتحدة، بالاشتراك مع شركائها الدوليين والإقليميين، لإعادة التفكير في نهج معيبٍ للغاية عفا عليه الزمن بشدة لصنع السلام بين العرب وإسرائيل. وسوف يتطلب ذلك استعدادًا لتجاوز آليات فاشلة مثل الاعتماد على اللجنة الرباعية — كتلة الوساطة المكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، والاعتراف بأن اللاعبين الإقليميين، ومنهم مصر، لهم دور قيادي عليهم تأديته بدلاً من الدور الداعم. والأهم من ذلك، فإنه يتطلب أيضًا من الولايات المتحدة وإسرائيل التكيف مع الحقائق الجديدة ليس فقط في مصر بل في فلسطين أيضًا. وكانت الفكرة بأنه يمكن التوصل إلى اتفاق سلام ذي هدف في غياب الوحدة الفلسطينية فكرةً مشكوك فيها. ولا يمكن الدفاع عن ذلك بشكل كامل، حتى في أعقاب الربيع العربي.