Commentary

لا بد للسبسي أن يتعاون مع الإسلاميين لضمان نجاح المرحلة الانتقالية في تونس

ملاحظة المحرر: هذا هو الجزء الثاني من دراسة من جزئين تتناول الانتخابات في تونس. تناول الجزء الأول حالة التحول الديمقراطي في ظل صعود حزب نداء تونس. أما الجزء الثاني، فيركّز على القضايا الاقتصادية وما إذا كان التقدم الذي تشهده تونس مستداماً. 

رغم النجاح الذي حققته تونس في إدارة عملية الانتقال السياسي من خلال انتخابات سلمية وعادلة، تبقى التحديات للمحافظة على هذا الانتقال هائلة. في حال لم يتعامل القادة المنتخبون حديثاً في تونس مع تلك التحديات بحذر، فقد يقوّض هؤلاء القادة الجدد التقدّم الثابت الذي حققته تونس على مدى السنوات الأربعة الماضية. إنّ أكثر ما يقلق هو غياب أجندة اقتصادية واضحة في الحملات الانتخابية لكلّ من الباجي قائد السبسي، الرئيس الحالي، وخلفه منصف المرزوقي. في استطلاع نشره مركز بيو في أكتوبر، قال 96 بالمئة من المشاركين إن “تحسين الظروف الاقتصادية غاية في الأهمية لمستقبل تونس”. لا تزال تونس تواجه عقبات اقتصادية كبيرة، وفي حين أن الحملتين وعدتا بالتركيز على الاقتصاد، إلا أنهما تركتا الشعب في حيرة من أمره في ما يتعلق بالطريقة المثلى لمعالجته.

رغم أن حزب نداء تونس لم يشكل حكومة بعد، إلا أن التحالفات الناشئة لا ترسل أي رسالة اقتصادية مريحة. يُعتبر حزب النهضة الإسلامي، الذي تنامى وتهاوى منذ الاطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن علي، الأقرب إلى توجهات فكر نداء تونس الاقتصادي الليبرالي. نظراً للخصومة السياسية الشرسة مع النهضة، يميل نداء تونس بدلا من ذلك إلى ائتلاف يضم أحزاباً يسارية بشكل عام على غرار الجبهة الشعبية، التي احتلت المرتبة الرابعة في البرلمان في انتخابات أكتوبر البرلمانية بحصولها على 15 مقعد. كذلك، يسعى نداء تونس للحصول على دعم مجموعات على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل القوي الذي يفضل المحافظة على اقتصاد حمائي سياسة اقتصادية لتقييد حركة التجارة بين الدول، من خلال التعريفات الجمركية على السلع المستوردة، والحصص التقييدية، ومجموعة متنوعة من غيرها من الأنظمة الحكومية المقيدة التي تهدف إلى تثبيط الواردات، ومنع الاجانب من الاستيلاء على الأسواق المحلية والشركات). إن التناقضات الأيدولوجية ضمن ائتلاف مماثل يعني أنه من الممكن أن يزرع المزيد من الفوضى في الاقتصاد التونسي بدلاً من تحسينه من خلال جذب الاستثمار الأجنبي الضروري، وتشجيع روح المبادرة، وملكية الشركات والأعمال الصغيرة والعمل على إرساء إصلاحات شديدة تطال القطاع المصرفي وقانون العمل.

بالإضافة إلى غياب أي استراتيجية اقتصادية واضحة، سلّطت هذه الانتخابات الضوء على الاستقطاب المستمر والشديد والانقسام الأيديولوجي بين الأحزاب الليبرالية والأحزاب الإسلامية في تونس. واستناداً لما بيّنته مونيكا ماركس من جامعة أوكسفورد، يميل المجتمع المدني التونسي للخوف من التوجهات الإسلامية أكثر من الاستبداد. تُظهر الأحزاب الليبرالية واليسارية مواقف عميقة مناهضة للإسلام من المحتمل أن تؤثر على الخارطة السياسية وعلى تشكيل الائتلافات في مرحلة ما بعد الانتخابات. عند سؤاله عن إئتلافاته السياسية المستقبلية، أشار السبسي إلى أن حزبه “سيحكم مع الأحزاب الأقرب إلينا، أي مع العائلة الديمقراطية”. وقالت ريم محجوب من آفاق تونس، وهو حزب علماني حصد ثمانية مقاعد في الانتخابات البرلمانية، إن حزبها يفضل ائتلافاً لا يضم النهضة. واتخذ يساريون آخرون موقفاً أكثر راديكالية ضد الإسلاميين، وقد قال منجي الرحوي من الجبهة الشعبية اليسارية إن التحالف مع النهضة هو “خط أحمر بالنسبة لنا. إن كانت النهضة في الحكومة، يعني أننا في المعارضة”.

تنبثق هذه المواقف من الحملات التي أشارت فيها النهضة إلى أن نداء تونس يمثل عودة لحقبة الاستبداد، بينما قال الحزب الأخير إن فوز النهضة يعني فوز الراديكالية والتطرف. لعب الحزبان على مخاوف المنتخبين أكثر من الأمل ببناء تونس جديدة، ذاك الأمل الذي قاد المتظاهرين خلال ثورتهم في أواخر العام 2010.

علاوةً على ذلك، ورغم الاجواء الجيدة والهادئة التي طبعت الانتخابات التونسية، لا يزال فوز نداء تونس الحاسم يحمل مخاطر تنذر بزعزعة الاستقرار. ومع فوز نداء تونس بالرئاسة والأكثرية البرلمانية، يبدو أن الحزب سيشكل الحكومة وسيترأسها – ونظرياً، لا يجب أن يشكل هذا الأمر أي مشكلة. ولكن في بلاد يشوبها الاستقطاب إلى هذا الحدّ، بلدٍ خرج حديثاً من نصف قرنٍ من الاستبداد ومع وجود قوى رجعية صاعدة في المنطقة، يبدو الميل وإمكانية انتزاع السلطة عالياً – كما حصل في مصر. غير ذلك، قد تمثل بنية نداء تونس تحدياً أمام الديمقراطية. شكل السبسي الحزب في العام 2012 لتمثيل مصالح مساهمين متنوعين أيديولوجياً الذين يفتقرون إلى أهداف مشتركة بعيداً عن إزاحة النهضة. ووفقاً لما شرحته دانيا غرينفيلد من مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلنطي، “من دون رؤية موحدة بعيداً عن الموقف المناهض للنهضة، يمكن أن ينهار نداء تونس تحت الضغط”. كيف سيتعامل السبسي بماضيه المثير للجدل مع هذه المسائل الحيوية كالعدالة الانتقالية وتقصي الحقائق في ما يتعلق بالنظام القديم؟ لقد شكلت تونس هيئة الحقيقة والكرامة للتحقيق في الجرائم الماضية وانتهاكات حقوق الإنسان التي قد يكون للسبسي يدٌ فيها.

بالتالي، من أجل إدارة عملية المرحلة الانتقالية المعقدة في تونس، لا بدّ أن يواجه السبسي التحديات بشكل مباشر. الأمر الذي يعني، أولاً وقبل كل شيء، التركيز على الاقتصاد. لطالما انتظر التونسيون التقدم الاقتصادي منذ الاطاحة ببن علي، وحتى هذه النقطة لم يعلنوا الثورة ضد الحكومات التي تلت، إلا أن صبرهم موضع اختبار. لن يتمكّن السبسي معالجة مشكلة الاقتصاد لوحده؛ لا بدّ أن يتواصل مع لاعبين سياسيين آخرين في تونس – وفي طليعتهم النهضة.

من الأفضل أن يشكل نداء تونس حكومة قوية تضم خصومه الإسلامي. معاً، سيتمكّن الحزبان من إرساء إصلاحات اقتصادية جدية، توحّدهما التوجهات الاقتصادية الليبرالية المشابهة. استناداً إلى غرينفيلد، من المرجح أن يتفق الحزبان على الإصلاحات الاقتصادية الأساسية، بما في ذلك “تحرير القطاع المصرفي، وتبسيط تسجيل الشركات، وإصلاح النظام الضريبي الذي من شأنه أن يعالج الاقتصاد غير المنظم، ومراجعة قوانين العمل التي تحدّ من قدرة أرباب العمل على توظيف الموظفين وتسريحهم”. ليس من مصلحة نداء تونس إبقاء حركة النهضة القوية خارج الحكومة، لا سيما وإن دفع النهضة تجاه المعارضة قد يترك نداء تونس ليعتمد على ائتلاف هشّ يتألف من أحزاب أصغر، لكلّ منها أولوياتها السياسية والاقتصادية، مما يجعل مهمته في الحكم أصعب.

ولا بدّ أن يعي نداء تونس أن السيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية تحمل معها مسؤولية كبيرة – ويمكن أن تكون التزاماً. يتعين على الحزب أن يتعلم من أخطاء الإخوان المسلمين في مصر وأن يتجنب السيطرة الأحادية الجانب خلال هذه الفترة الحاسمة الضعيفة. ومن جهته، يتعين على السبسي أن يقاوم أي إغراءات لتغذية الاستقطاب الإقليمي للإسلاميين في مواجهة المناهضين للإسلاميين، الأمر الذي يعصف في ليبيا المجاورة وكذلك في مصر. لا بدّ أن يحافظ على دور تونس كدولة رائدة متقدمة في العالم العربي، بدلاً من اللحاق بنزعات إقليمية خطيرة.

حان الوقت الآن ليعيد نداء تونس بناء تونس بنحوٍ شامل لتأمين نتائج اقتصادية ملموسة ملّ التونسيون من انتظارها. ليست الهوة بين السبسي عن المرزوقي كبيرةً كما يدعي الإعلام ؛ فتعاونهما أمر ممكن. وكما قال المحلل السياسي يوسف الشريف لقناة الجزيرة، إنّ “السبسي ليس سيسي تونس”، للدلالة على الرئيس المصري الحالي، “والمرزوقي ليس تشي جيفارا تونس”. الآن وقد وصل نداء تونس إلى السلطة، لا بدّ أن يبرهن عن التزام أكبر بإعادة بناء تونس بدلاً من انتقاد الخصوم السياسيين. في حال فعل ذلك، فإن حزبه سيجعل من تونس نموذجاً يُحتذى به في العالم العربي.