Commentary

الانتخابات التونسية تختم المرحلة الانتقالية وتثير المخاوف من عودة النظام القديم

ملاحظة المحرر: هذا هو الجزء الأول من دراسة من جزئين تتناول الانتخابات في تونس. يتناول الجزء الأول من هذه الدراسة حالة التحول الديمقراطي في ظل صعود حزب نداء تونس، فيما يركّز الجزء الثاني على القضايا الاقتصادية وما إذا كان التقدم الذي تشهده تونس مستداماً.

ها هم التونسيون يصنعون التاريخ مجدداً وها هو مهد الربيع العربي يجعل من نفسه منبع الديمقراطية في العالم العربي، والتعددية والانتقال السلمي – ونموذجاً للعالم العربي كله. أجرت تونس الشهر الماضي، ولأول مرة منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1956، انتخابات برلمانية ورئاسية تنافسية لاقت استحسان المراقبين الدوليين الذين أشادوا بنزاهتها. في حين فاز حزب نداء تونس العلماني بالأغلبية في البرلمان وانتُخِب زعيمه، الباجي قائد السبسي، البالغ من العمر 87 عاماً، رئيساً مع 55,68 بالمئة من الأصوات، إلا أنّ الفائز الحقيقي في هذه الانتخابات هو تونس.

على الورق، لقد اجتازت البلاد مرحلتها الانتقالية منذ الإطاحة الشعبية بالرئيس زين العابدين بن علي قبل أربع سنوات، في ظل دستور جديد وقانون العدالة الانتقالية وبيئة سياسية سمحت بتشكيل أحزاب جديدة تتنافس بشكلٍ عادل في الانتخابات – وضعٌ لا يشبه لا من قريب ولا من بعيد نظام بن علي الأحادي الحزب. لقد تخطّت البلاد بنجاح أزمات سياسية كانت تهدد بعرقلة التقدم، على رأسها الاغتيالان اللذين وقعا في العام 2013 وقضى فيهما العضوان البارزان في البرلمان شكري بلعيد ومحمد براهمي. وتمكّن التونسيون، بمساعدة مجتمع مدني متين، من صياغة التسويات وتجنب المطبات التي وقعت فيها البلدان المجاورة لهم. أمّا الآن، فعل قادتهم أن يفكروا في استدامة إنجازاتهم، والأهم من ذلك، تقديم النتائج إلى أولئك الذين بدؤوا الثورة ضد بن علي.

وهذا لأن العديد من التونسيين والمراقبين أضحوا يتسألون عما إذا كان فوز السبسي بالرئاسة يمثّل عودة فلول النظام القديم ونجاح ثورة مضادة. لقد دفع فوز نداء تونس في الانتخابات البرلمانية في أكتوبر بسعيد فرجاني – قيادي بارز في حركة النهضة، الحزب الإسلامي الذي كان محظوراً لفترة طويلة و جاء إلى السلطة بعد سقوط بن علي –إلى التحذير من أن النظام عاد “من الباب الخلفي”. إنّ صعود نداء تونس ليس بالضرورة ثورة مضادة، إلا أنّ القلق والمخاوف التي تنتاب بعض التونسيين بشأن هذا الاحتمال صالحة ولا يمكن تجاهلها.

ليس من الصعب أن ندرك لماذا: لم يعمل السبسي في نظام حبيب بورقيبة الأوتوقراطي الذي جاء قبل بن علي فحسب، بل شغل في العام 1965 أكثر المناصب حساسية – وزير الداخلية – أي خلال الفترة التي شاع فيها تعذيب المعتقلين السياسيين على نطاق واسع. للسبسي صلة بالاتهامات المثيرة للجدل حول تعذيب تيار اليوسفي المعارض لبورقيبة في ستينيات القرن الماضي. وعمل لاحقاً كوزير خارجية ووزير دفاع في ظل بورقيبة، وكان عضواً في البرلمان الشكلي أثناء السنوات الأولى لتولي بورقيبة منصب الرئاسة. في حال أراد السبسي متابعة سياسات خلفه القائمة على اضطهاد الخصوم السياسيين والإسلاميين، سيحظى بدعم إقليمي قوي، لا سيما من الجنرال خليفة حفتر في ليبيا والرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر. رغم أنه صرّح مراراً وتكراراً أنه سيكون رئيساً للتونسيين جميعاً، إلا أنه بدا في مناسبات عدة أنه يركّز على مهاجمة الإسلاميين أكثر من تركيزه على مهمته الكبرى في إعادة بناء الاقتصاد التونسي المدمر.

ولكن حتى وإن كانت خلفيته كذلك، يجب ألا يتسرّع التونسيون في الافتراض أن السبسي يمثل بالضرورة عودة النظام القديم أو قيام ثورة مضادة. إنّ العام 2014 مختلف عن العام 1965. كوزيرٍ للداخلية في تلك الفترة، كان السبسي مديناً للزعيم الأوتوقراطي الذي عيّنه في هذا المنصب. اليوم، أصوات التونسيين هي التي أوصلت السبسي إلى السلطة، ولا بدّ أن يكون ولاؤه أولاً وأخيراً للشعب وللعملية الديمقراطية. إنها من مصلحة السبسي أن يظهر كزعيم للتونسيين جميعاً، بغض النظر عن توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية، بدلاً من اعتماد أجندة ضيقة ترمي إلى احتكار المشهد السياسي وإقصاء آخرين. الأهم من ذلك، وخلافاً للعام 1965، كان مستقبله كوزير شاب يعتمد على إثبات ولائه لبورقيبة. أما اليوم، فلا بدّ أن يركز السبسي على إرثه الخاص. وكما قال السبسي: “هل تعتقدون أن رجلاً في سني سيتغول الآن ويقيد الحريات؟”

حتى مع هذه الضمانات، لا يزال أقوى ضامن لعدم عودة ممارسات النظام القديم هو الشعب التونسي نفسه. من غير المرجح أن يكون القمع الذي مارسته الدولة في ظل بورقيبة وزين العابدين بن علي مقبولاً الآن وقد كسر التونسيون جدار الخوف. إنّ المجتمع نفسه قد تغير وأصبح فيه أحزاب سياسية جديدة ومجتمع مدني أقوى وأكثر حزماً. رغم حصول نداء تونس على 85 مقعداً من أصل 217 في البرلمان، إلا أنّه يواجه معارضة قوية – ويجب تشكيل ائتلاف لكي يحكم. ومن غير المرجّح أن ينضم حزب النهضة، الذي فاز بـ 69 مقعداً، إلى الائتلاف الحاكم، وبدلاً من ذلك، سيكون بمثابة فاحص للهيمنة السياسية والسلوك التسلطي.

ثمة سبب آخر يدعو للتفاؤل بالسبسي والديمقراطية التونسية وهو سلوك النهضة. لقد رفضت تونس الحكمة التقليدية القائلة بأن الإسلاميين يتلاعبون بالديمقراطية للوصول إلى أهدافهم ومن ثم يتخلون عنها. وصلت حركة النهضة إلى السلطة على أثر الانتخابات الأولى التي أجريت بعد بن علي في العام 2011، مشّكلةً حكومة ائتلاف مع حزبين وسطيين يساريين، التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية. ومع وقوف البلاد على حافة الاضطرابات بعد اغتيالات العام 2013 التي أودت بحياة بلعيد وبراهمي، تصرفت النهضة ببراغماتية لتجنب حدوث أزمة. إذ وافقت على تحويل السلطة إلى حكومة تكنوقراط إلى أن يتمّ عقد الانتخابات التالية. وافق الحزب الإسلامي على نتائج انتخابات أكتوبر البرلمانية، بعد أن فاز بالمرتبة الثانية وخسر 20 مقعداً. وشدد زعيم الحزب، راشد الغنوشي، أن حركة النهضة ستكون سعيدة “بخدمة البلاد سواء أكانت في الحكومة أم في المعارضة”.

زادت الانتخابات الرئاسية من قوة النموذج الانتقالي في تونس عندما قبل الرئيس السابق منصف المرزوقي علناً بالنتيجة. وباتصاله بالسبسي ليتمنى له النجاح، أصبح المرزوقي الرئيس العربي الأول المنتخب ديموقراطياً في التاريخ الحديث الذي يتخلى بهدوء عن السلطة. وفي علامة أخرى لقوة الديموقراطية في تونس، أعلن المرزوقي تشكيل حركة جديدة “لمنع عودة الاستبداد”، وانضم إلى المعارضة وعبّر عن التزامه بمساءلة الحكومة الجديدة المسؤولية من خلال الوسائل السلمية والديموقراطية.

المؤسسات موجودة لتساعد السبسي على الالتزام بوعده، بما في ذلك نظاماً قانونياً محترماً يحافظ على استقلاليته. لكن لا بد أن يقرّ رئيس تونس الجديد أن مخاوف تونس من عودة النظام القديم وربما الاستبداد هي مخاوف منطقية. إلا أن بداية السبسي لا تبدو موفقة: يوم الاثنين، اختار نداء تونس أحد وجوه النظام القديم، وزير الداخلية الحبيب الصيد، رئيساً للوزراء. يتعين على السبسي الآن أن يتخذ إجراءات لبعث الطمأنينة في نفوس خصومه، بما في ذلك احترام المجتمع المدني وبشكلٍ خاص معالجة المشاكل الاقتصادية في تونس.