BPEA Spring 2024 conference

LIVE

BPEA Spring 2024 conference

Commentary

إتمام المهمة: إصلاح قطاع الأمن بعد الربيع العربي

وقفت وحشية القطاع الأمني في كل بلد حدثت فيه انتفاضة تقريباً وراء اندلاع الانتفاضات العربية بشكل أساسي. ففي تونس، تفجّرت الثورة عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه بعد أن تعرّضه لعدد من الإهانات من قبل الشرطة في ديسمبر 2010. أما في مصر، فقد أدّى مقتل ناشط الانترنت خالد سعيد على يد شرطيين في يونيو 2010، بالإضافة إلى وحشية الشرطة في خلال الانتخابات البرلمانية المزورة في نوفمبر وديسمبر 2010 إلى رسم سياق الثورة.

وفي ليبيا، اشتعلت الثورة في شهر فبراير 2011 بعد اعتقال فتحي تربيل – وهو محامي في قضايا حقوق الإنسان مثّل أسر الضحايا الذين سقطوا في مذبحة سجن أبو سليم في يونيو 1996، حين قُتل أكثر من 1,236 سجين سياسي برصاص قوات أمن معمر القذافي. إما في سوريا، فقد أدّت الانتهاكات التي ارتكبتها قوات أمن الأسد في مارس 2011، حين تم سحب أظافر الأطفال والمراهقين في درعا، إلى اندلاع الاحتجاجات التي أشعلت بدورها الحرب الأهلية الدائرة البلاد. في نواح عدة، جاء الربيع العربي كرد فعل إقليمي ضد انتهاكات ارتكبتها الأجهزة الأمنية.

على مر العقود التي سبقت ثورات 2011، كان أداء المؤسسات الأمنية العربية أقرب إلى أداء عصابات الجريمة المنظمة منه إلى الأجهزة الأمنية المهنية. كانت مفاهيم مثل حقوق الإنسان والأمن والرقابة الديمقراطية والإشراف المدني والمساءلة غائبةً عن معاجم وزارتي الدفاع والداخلية العربية، وتم قمع أية محاولات لإضافتها بوحشية تامة. نذكر على سبيل المثال، انقلاب يناير عام 1992 ضد الرئيس الإصلاحي الجزائري الشاذلي بن جديد وانقلاب يونيو 1989 ضد الصادق المهدي، رئيس الوزراء السوداني المنتخب ديمقراطياً. في الواقع، من غير المفاجئ أن نشطاء المعارضة المصرية اختاروا يوم 25 يناير وهو “يوم الشرطة” لتنظيم الاحتجاجات الضخمة التي أطلقت الثورة المصرية بهدف “تكريم” الأجهزة الأمنية. قال لي أحد الشباب الثوريين:”أردنا تخريب حزبهم كما خربوا لنا حياتنا”، وأضاف “كان علينا تدميرهم… كم أنتمنى لو كان هناك طريقة أخرى، ولكن للأسف”.

الآن، لا بدّ من إصلاح هذه الأجهزة الأمنية. فبعد إسقاط الأنظمة الديكتاتورية في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، بات إصلاح قطاع الأمن هدفاً ضرورياً بعين كلّ من القوات الثورية والإصلاحية بغضّ النظر عن انتمائها الأيديولوجي أو السياسي. سيكون الأمر كذلك بالنسبة لسوريا عند سقوط نظام الأسد ولأية دولةٍ عربية أخرى يُحتمل أن تشهد تحوّلاً تتخلص على أثره من النظام الاستبدادي السائد على حكمها. سيؤثر مجرى عملية الإصلاح في شكلٍ كبير على تحديد مستقبل الديمقراطية في العالم العربي.

يمكن وصف إصلاح قطاع الأمن كشكلٍ من أشكال تحول جهاز الأمن بما في ذلك أدوار مختلف الجهات الفاعلة المعنية ومسؤولياتها والإجراءات التي من شأنها أن تتخذها بحيث تتم إدارته وتشغيله بشكلٍ يتوافق مع المعايير الديمقراطية ومبادئ الحكم السليم، ليساهم بالتالي في بناء إطار أمني فعال. بالنظر إلى المعايير المثالية، ينبغي أن تحتضن عملية الإصلاح مختلف فروع القطاع الأمني، من القوات المسلحة إلى السلطات الجمركية، علماً أنه سيُصار في حالات مماثلة إلى التركيز على البيروقراطيات الأمنية في خلال مرحلة ما بعد الربيع العربي التابعة لوزارات الداخلية، بدلاً من تلك التابعة لوزارات الدفاع أو الخاضعة لقيادة السلطة التنفيذية المباشرة أي الرئيس في مصر ورؤساء الوزراء في كلٍ من تونس وليبيا. في مصر وليبيا وتونس، تشمل البيروقراطيات الأمنية الخاضعة لوزارتي الداخلية الشرطة والقوات شبه العسكرية، كقوات الأمن المركزي في مصر وقوات التدخل في تونس، والاستخبارات الداخلية كجهاز الأمن الوطني في مصر، والقوات المؤقتة غير النظامية كاللجنة الأمنية العليا في ليبيا.

بالنظر إلى حالة الدول العربية بشكلٍ عام وإلى دول الربيع العربي التي تشهد انتقالاً من المرحلة الاستبدادية بشكلٍ خاص، إنّ اثنين من أهداف إصلاح قطاع الأمن الأساسية حاسمان. يتجلى أولهما في تأسيس الحكم الفعال والرقابة والمساءلة في النظام الأمني وثانيهما في تحسين تقديم الخدمات والأمن والعدالة. إلا أن التحديات التي تعترض عملية إصلاح قطاع الأمن تتعدد وتتنوع بدءاً من الأبعاد التقنية والتنظيمية والإدارية الخاصة بالعملية. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر إصلاح قطاع الأمن عملية سياسية بامتياز تضمّ الفصائل القوية المناهضة للإصلاح ضمن البيروقراطيات المعنية. في الواقع، يمكن لهذا البعد السياسي أن يحدد اتجاه المشروع بأكمله ونجاحه.

محاولات إصلاحية

بعد كل ثورة ناجحة من ثورات الربيع العربي، كانت المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وكذلك الخبراء المستقلين يضعون عدداً من المبادرات لإصلاح القطاع الأمني. في تونس، بدأت جهود إصلاح قطاع الأمن سريعاً في يونيو 2011، أي بعد بضعة أشهر على فرار الرئيس زين العابدين بن علي. في نوفمبر 2011، أعدت وزارة الداخلية تقريراً حكومياً عرض خارطة طريق لإصلاح قطاع الأمن في تونس وناقش تحويل قطاع الأمن من نظام شرطة إلى دائرة شرطة من شأنها أن تستجيب بشكلٍ عاجلٍ للتحديات الجديدة التي يطرحها عالم الجرائم. إلا أن قادة تونس الحاليين يرون في التقرير الحكومي هذا ثمرة عناصر النظام السابق ضمن وزارة الداخلية الذين لا ينتمون بالضرورة إلى مؤيدي الإصلاح. في هذا الصدد حدثني عامر العريض، رئيس المكتب السياسي لحزب النهضة، في مايو من العام 2012 قائلاً: “يضمّ التقرير الحكومي بعض العناصر الجيدة، لكنه لا يقدم أي إصلاح شامل”. في غضون ذلك، أصبح علي العريض في ديسمبر 2011 وزيراً للداخلية قبل أن يتسلم زمام رئاسة الوزراء في شهر مارس وذلك بعد 16 عاماً أمضاها ضحية للتعذيب في سجون نظام بن علي.

في مصر، تم اقتراح أكثر من 10 مبادرات لإصلاح قطاع الأمن منذ مارس 2011. وقد بدأت مجموعة من المساهمين، بما في ذلك خبراء مستقلون ومجموعات المجتمع المدني وضباط شرطة ساخطون ووزارة الداخلية والبرلمان، بتنفيذ المقترحات التي تختلف بشكلٍ كبير من حيث الجودة والشمولية. وعرضت منظمات المجتمع المدني مبادرات متنوعة تركز على الإصلاح القانوني والرقابة وتشجيع المدنيين على المشاركة في قطاع الأمن. كان بمقدور الضباط الساخطين تشكيل عدد من المنظمات المستقلة، كالائتلاف العام لضباط الشرطة الذي ناضل من أجل الحصول على اعتراف رسمي باعتباره اتحاد شرطة يخضع لقيادة يتمّ انتخاب أعضاؤها. وركزت المبادرات المقترحة من قبل الائتلاف العام لضباط الشرطة وغيره من الجهات على تطهير قوات الشرطة من العناصر الفاسدة، وتحسين ظروف العمل والتدريب والعلاقات الإعلامية والعلاقات العامة وزيادة الرواتب والمعاشات التقاعدية. هذا وقد قامت الرئاسة والبرلمان باستشارة عدد من الخبراء المستقلين في مجال إصلاح قطاع الأمن في ما يتعلق بتنفيذ مختلف المقترحات.

إلا أن الخطوة الأكثر جرأة نحو السيطرة المدنية على قطاع الأمن قد تكون تلك التي أقدمت عيها الرئاسة المصرية. في أغسطس 2012، أدت مذبحة سيناء التي نفذتها مجموعة مسلحة بحقّ جنود مصريين إلى الاستغناء عن عددٍ من كبار ضباط المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بمن فيهم رئيسه المشير حسين طنطاوي ونائبه الجنرال سامي عنان. علاوةً على ذلك، أدت حادثة سيناء إلى إقالة عدد من أقوى الجنرالات في مختلف أقسام القطاع الأمني بمن فيهم رئيس مديرية المخابرات العامة المصرية مراد موافي، وقائد الحرس الجمهوري نجيب محمد عبد السلام، وقائد الشرطة العسكرية حمدي بدين، ورئيس مديرية أمن القاهرة محسن مراد، ورئيس قوات الأمن المركزي عماد الوكيل. تشارك هؤلاء الجنرالات جميعهم موقفاً مناهضاً للإصلاح وتحدوا السيادة المدنية المنتخبة وأرادوا الحفاظ على أكبر قدرٍ ممكن من السياسات والممارسات التي سادت في خلال عهد مبارك. وقد اتهمت مجموعات إصلاحية وثورية اثنان منهما بشكلٍ خاص وهما بدين ومراد بتنظيم حملة قمع ضد الناشطين.

في ليبيا، بدأ إصلاح قطاع الأمن مع تعيين سالم الحاسي رئيساً لوكالة الاستخبارات الليبية، جهاز الأمن الخارجي. كان الحاسي عضواً في الجناح المسلح للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا وقضى أكثر من عقدين منفياً في الولايات المتحدة، وقد أصبح أول شخصية مدنية معارضة تترأس جهاز مخابراتي عربي . عند تسلّمه منصبه، صرّح الحاسي قائلاً: “كانت أجهزة المخابرات العربية جميعها متوفرة لحماية النظام وقمع المواطنين. سأبذل قصارى جهدي لأغيّر هذا الواقع. ستكون الاستخبارات الليبية تحت سيطرة السلطة التنفيذية المنتخبة وإشراف المؤتمر الوطني العام المباشر.

في الحقيقة، يُعتبر نجاح الحاسي في مسعاه أم فشله مسألة أخرى. لقد واجه الحاسي وعملاؤه اتهامات بالتنصت على الهواتف ومراقبة الموالين للقذافي إلكترونياً، وذلك باستخدام معدات إيقاف ورثوها عن نظامه. سيحتاج المؤتمر الوطني العام العام والبرلمانات المستقبلية في ليبيا إلى صياغة قوانين الرقابة والسيطرة على الأمن وأجهزة الاستخبارات، وكذلك إلى آلية واضحة لتطبيق تلك السيطرة. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الخطوات هذه ستتطلب مساعدة بعثة دعم الأمم المتحدة بليبيا وخبراء مستقلين. في الوقت عينه، تحتاج ليبيا أيضاً وبشدة إلى عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج شاملة، علماً أنه تمّ بالفعل اتخاذ عددٍ من الخطوات بهدف تحقيق الغاية تلك.

تحديات خطيرة

لتحقيق أهداف إصلاح قطاع الأمن الأساسية التي تتجلى في حوكمة القطاع الأمني الفعالة وتحسين مستوى خدمات الأمن والعدالة، لا بدّ من التغلب على بعض العقبات الكبرى ومن ضمنها نذكر ستّ عقبات تواجهها دول الربيع العربي التي نجحت ثوراتها في إسقاط الطغاة، أي في تونس ومصر وليبيا واليمن. ولا بدّ من الإشارة إلى أن أماكن أخرى من العالم العربي تواجه أيضاً العقبات هذه. تتجلى العقبة الأولى في الاستقطاب السياسي الشديد الذي يمكن أن يؤدي إلى تسييس عملية إصلاح قطاع الأمن فضلاً عن العنف السياسي. أما العقبة الثانية فهي المقاومة الداخلية والخطط الفاسدة التي تضعها الفصائل المناهضة للإصلاح ضمن القطاع الأمني. وتُعتبر القدرة المحدودة وموارد الحكومات المنتخبة حديثاً العقبة الثالثة، في حين تكمن العقبة الرابعة في ضعف المؤسسات الديمقراطية، وتتجلى العقبة الخامسة في المعرفة والخبرة المحدودة لمتطلبات إصلاح قطاع الأمن بين المساهمين المستفيدين، لتكون العقبة السادسة هي عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج غير المكتملة للمقاتلين السابقين المناهضين للنظام لاسيما في ليبيا واليمن.

لتحقيق أهداف إصلاح قطاع الأمن الأساسية التي تتجلى في حوكمة القطاع الأمني الفعالة وتحسين مستوى خدمات الأمن والعدالة، لا بدّ من التغلب على بعض العقبات الكبرى ومن ضمنها نذكر ستّ عقبات تواجهها دول الربيع العربي التي نجحت ثوراتها في إسقاط الطغاة، أي في تونس ومصر وليبيا واليمن. ولا بدّ من الإشارة إلى أن أماكن أخرى من العالم العربي تواجه أيضاً العقبات هذه. تتجلى العقبة الأولى في الاستقطاب السياسي الشديد الذي يمكن أن يؤدي إلى تسييس عملية إصلاح قطاع الأمن فضلاً عن العنف السياسي. أما العقبة الثانية فهي المقاومة الداخلية والخطط الفاسدة التي تضعها الفصائل المناهضة للإصلاح ضمن القطاع الأمني. وتُعتبر القدرة المحدودة وموارد الحكومات المنتخبة حديثاً العقبة الثالثة، في حين تكمن العقبة الرابعة في ضعف المؤسسات الديمقراطية، وتتجلى العقبة الخامسة في المعرفة والخبرة المحدودة لمتطلبات إصلاح قطاع الأمن بين المساهمين المستفيدين، لتكون العقبة السادسة هي عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج غير المكتملة للمقاتلين السابقين المناهضين للنظام لاسيما في ليبيا واليمن.

لا يجب أن يشكل الاستقطاب السياسي في حدّ ذاته عقبة أمام إصلاح القطاع الأمني. فتنوع الأطياف السياسية والمناقشات الساخنة وتعدد الحجج والفوارق العامة في الآراء ينبغي أن تُعتبر مكاسب للثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن. في الواقع، لا بدّ أن تسعى الدول العربية الأخرى إلى إرساء حرية الرأي والتعبير هذه.

ومع ذلك، فقد أثّر بعض تداعيات هذا الاستقطاب سلباً على عمليات إصلاح القطاع الأمني. ففي البلدان المذكورة آنفاً والتي شهدت حركات انتقالية، يبدو العنف السياسي والإجرامي رخيصاً وفعالاً، ومخاطر استخدام العنف ضئيلة جداً. يقول وزير الداخلية المصري الجديد الجنرال محمد إبراهيم في مؤتمر صحفي عُقِد في فبراير: “قُتِل 186 ضابطاً وجُرِح أكثر من 800 ضابط آخر حتى الآن، ومُنِع قادة الأجهزة الأمنية من دخول مكاتبهم، ويعمد مئات الأولاد إلى حرق القصر الرئاسي أسبوعياً. علاوةً على ذلك، تمّ إغلاق واحدٍ من أكبر مجمعات الحكومة المصرية لمدة أربعة أيام، فأنّى لي أن أجد الوقت للإصلاح؟ متى ستنتهي المهاترات السياسية هذه؟”. كان هذا التصريح واحداً من التصاريح العلنية النادرة التي يدليها وزير ويتناول في خلالها القيود المفروضة على قوات الأمن وعملية الإصلاح. والمقلق في الأمر أنه كن صادقاً بشأن الحقائق والأرقام.

في هذا الصدد، تجد وزارات الداخلية في مصر وغيرها من بلدان ما بعد الربيع العربي نفسها أمام معضلة. فمن ناحية، هي مسؤولة عن الدفاع عن مؤسسات الدولة، والتي هي مهددة باستمرار من قبل جماعات عنيفة تنتمي لخلفيات متعددة. ومن ناحية أخرى، إذا قُتل أو جُرح أي من أفراد هذه المجموعات، سيتم اتهام وزارة الداخلية بالوحشية. زد على ذلك أنّ لهذه الوزارات خبرة محدودة في التكتيكات غير الفتاكة لمكافحة الشغب. لخّص المشكلة شخص برتبة رائد في قوات الأمن المركزي المصري، والذي كان شاهداً على الهجمات على القصر الرئاسي في كانون الثاني الماضي: “إن النمط الذي نراه هنا هو أن الضابط يهاجم بالبنادق وقنابل المولوتوف. اذا هرب، يتم اتهامه بالتقصير، ثمّ يُحاكم. وفي حال ردّ على الهجوم، يتم اتهامه بالوحشية، ثمّ يُحاكم أيضاً. فما هو بالضبط ما يُفترض أن يفعله؟”.

ومن النتائج الأخرى التي يخلّفها الاستقطاب السياسي الشديد هو تسييس عملية إصلاح قطاع الأمن من قبل السياسيين المتنافسين. ففي البرامج الحوارية، تدعو بعض الشخصيات السياسية إلى تنفيذ عملية إصلاح قطاع الأمن وإلى وضع حد لوحشية عناصر الشرطة، وفي الوقت نفسه، تُثني هذه الشخصيات نفسها بجنرالات يُعرفون بدعمهم للتكتيكات الوحشية. وذهب بعض السياسيين حتى إلى دعوتهم إلى التدخل في العملية السياسية من خلال تضييق الخناق على منافسيهم السياسيين. وبالمقارنة مع حالات أخرى، من الواضح أنّ وحدة القوى السياسية حول مطالب متعلّقة بعدم تسييس قطاع الأمن وفرض السيطرة المدنية على القوات المسلحة هي أمر أساسي لضمان نجاح إصلاح قطاع الأمن والعملية الديمقراطية.

أما التحدي الثاني، فيتمثل بالمقاومة القوية داخل صفوف القطاعات الأمنية في بلدان ما بعد الربيع العربي للعديد من العناصر الحاسمة لعملية الإصلاح. فالنسبة لبعض القادة في وزارات الداخلية العربية، فهم يفهمون عملية الإصلاح على أنها تعني زيادة الإمكانيات المادية وميزانيات مؤسساتهم. في حين أنّ هذا هو جزء من عملية إصلاح قطاع الأمن الذي يهدف إلى تحسين أداء هذه المؤسسات الأمنية، لا ترحب وزارات الداخلية العربية عادة بعناصر الإصلاح الأخرى. وتشمل هذه العناصر على الإشراف المدني الفعال، والإجراءات التي تضمن الشفافية، واعتماد الجدارة كمعيار للترقية بدلاً من الأقدمية، وحتى مراجعة مناهج أكاديميات الشرطة على الرغم من أن نسبة مقاومة هذا العنصر الأخير أقل بالمقارنة مع العناصر الأخرى.

تواجه المساءلة بشكلٍ خاص مقاومة قوية. ومن الأمثلة التي يمكن تقديمها في هذا الصدد، نذكر العقيد منصف العجيمي، المدير السابق لقوات التدخل في تونس الذي اتُهِم رسمياً بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين في مدينتي تالة وقصرين خلال الثورة التونسية. أثناء المحاكمة التي خضع لها العجيمي، حاول العريض، والذي شغل في حينها منصب وزير الداخلية، عزله من منصبه. كردة فعل على ذلك، أقام مئات رجال الشرطة من ثكنة بوشوشة حاجزاً لمنع وصول العجيمي ثم نظموا إضراباً للاحتجاج على محاولة إقالته. انسحب آلافٌ من أعضاء قوات التدخل من المواقع الرئيسة في عددٍ من المدن التونسية، وعادوا إلى ثكناتهم. وقد علّق أحد عناصر الشرطة المشاركين في الاحتجاج: “لن نكون كبش فداء لأسر الشهداء”. نتيجة لذلك، اضطر العريض إلى إبقاء العجيمي في الوزارة. وفي يونيو، أصدرت محكمة عسكرية حكماً يبرئ العجيمي من التهم المنسوبة إليه. ورغم أن النيابة العسكرية استأنفت الحكم، إلا أن الحادث يعكس مستوى المقاومة التي تواجهها عملية المساءلة من قبل حكومات ما بعد الثورة المنتخبة حديثاً

.

يتمثل التحدي الثالث في القدرات والموارد المحدودة. بعد الثورة، ورثت الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في مصر وليبيا وتونس تحديات اقتصادية خطيرة. بلغ الدين العام في مصر 199 مليار دولار، أو ما يساوي 85% من ناتجها المحلي الإجمالي. وبالرغم من أن الدين العام في تونس قد بلغ مستويات أقل مما هو عليه في مصر إذ وصل فقط إلى 15.8% من الناتج المحلي الإجمالي وكذلك في ليبيا حيث وصل إلى 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن حكومات هذه البلدان لا تزال تعاني من محدودية الموارد المتاحة لتنفيذ عملية إصلاح قطاع الأمن الشاملة. لكن الأزمة الاقتصادية في مصر لم تمنع المجلس العسكري من زيادة مكافآت رجال الشرطة بنسبة 300% في ميزانية عام 2012 وذلك “لتعزيز الأداء الأمني”. أما تونس فتنفق 9.5% من ميزانية الدولة على وزارة الداخلية للغاية عينها. ومع ذلك، لا تتوفر إلا معلومات عامة محدودة توضح كيفية إنفاق هذه الموارد ونتائج هذا الإنفاق مما يقوّض كلّ من الشفافية والمساءلة.

يتمثل التحديان الرابع والخامس اللذان يعرقلان إصلاح قطاع الأمن في دول الربيع العربي بعد الثورات في ضعف المؤسسات الديمقراطية، ومحدودية المعرفة والخبرة في ما يتعلق بمتطلبات إصلاح قطاع الأمن بين عددٍ من المستفيدين من هذه العملية. في مصر، حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة البرلمان، مجلس الشعب، الذي انتُخب بعد الثورة وذلك بعد صدور حكم المحكمة الدستورية الذي اعتبر في يونيو 2012 بعض أجزاء قانون الانتخابات غير دستورية. قبل حلّه، كان مجلس الشعب قد وافق على إجراء بعض التعديلات على القانون الذي يحكم تنظيم الشرطة. جرّدت النسخة الجديدة من القانون الرئيس من حقّه بالعمل كرئيس المجلس الأعلى للشرطة، وعدّلت المواد المتعلقة بالرواتب ووضع بعض الرتب في الشرطة. إلا أن بعض أعضاء البرلمان والناشطين عبّروا عن إحباطهم بعد الإعلان عن هذه التعديلات. وفي هذا المضمار، أشار أحد النواب: “قُتِل أكثر من 70 مصري في مدرج بور سعيد وكلّ ما قام به البرلمان الثوري هو محاولة تعديل بعض المواد المتعلقة بالرواتب ومعاشات التقاعد”. تبدو الهوّة واضحةً بين المطالب الثورية القاضية بالتخلّص من التعذيب ووضع حدّ للحصانة وزيادة الشفافية من جهة، وبين المعرفة المحدودة التي تسمح بترجمة المطالب هذه إلى سياسات وإجراءات كفيلة بتنفيذ إصلاح قطاع الأمن من جهةٍ أخرى. أدى الفهم العام للقيود هذه في تونس إلى تعاون بين الحكومة ووزارة الداخلية وبين المنظمات الدولية وعددٍ من خبراء إصلاح قطاع الأمن لتحديد الإصلاحات الضرورية مع حلول يوليو من العام 2011.

أما التحدي الأخير الذي يواجه إصلاح قطاع الأمن والذي يظهر في شكلٍ خاص في ليبيا واليمن، وإلى حدٍ أقل في شبه جزيرة سيناء في مصر، فيتجلى في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج التي تُعتبر أساسية لضمان نجاح إصلاح قطاع الأمن وعمليات الديمقرطة في هذه البلدان. في حال فشلت العملية أو نجحت جزئياً فقط، ستشكل المنظمات المسلحة تحدياً يواجه الحكومات المنتخبة ديمقراطياً كما تشير الحال في ليبيا، رغم التطور النسبي الذي تمّ تحقيقه. في فبراير 2012، أعلن وزير الداخلية الليبي تعيين 10 آلاف ثوري مسلح ضمن صفوفه في حين أعلن وزير الدفاع إعادة دمج 5 آلاف آخرين في وحدات الجيش. إلا أن الأرقام هذه تبدو صغيرة بالمقارنة مع التقديرات التي أشارت إلى تسليح 125 ألف مواطن بعد الثورة.

وعلاوة على ذلك، أثبتت إعادة الدمج الجماعي للكتائب المسلحة أنها تطرح إشكالية كبيرة، نظراً لأنها تقوض بنية القيادة والسيطرة في كل من وزارتي الدفاع والداخلية. تلقى الأفراد الذين أعيد دمجهم الأوامر من قائد لوائهم المباشر وليس من وزير الدفاع أو وزير الداخلية. ففي أحداث الكفرة بين شهري فبراير ويونيو 2012، حين اشتبكت قبيلتان في منطقة جنوب شرق ليبيا النائية مما أدى إلى مقتل أكثر من 100 شخص، لم تكشف محدودية قدرة الجيش وقوات الأمن على احتواء العنف بين القبائل فحسب، بل كشفت أيضاً عن ضعف بنية القيادة والسيطرة ضمن وزارة الدفاع. يكمن لمس هذا الضعف من خلال وجود مجموعات مسلحة غير خاضعة للدولة ترفض نزع سلاحها في ظلّ عجز الدولة عن ضمان سلامتهم بسبب عوامل عديدة أبرزها محدودية القدرات مما يقوّض في النهاية عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج ويعقّد العمليات ذات الصلة بإصلاح قطاع الأمن والدمقرطة. هذا وتشهد اليمن ظرفاً مشابهاً جداً رغم أنه لم يتمّ تقويض قوى النظام القديم كما حصل في ليبيا.

الخلاصة

رغم أن الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا قضت بقسوة على النموذج الاجتماعي القمعي المعروف باسم دولة المخابرات، إلا أن عدداً كبيراً من نظمه الثقافية الثانوية لا يزال موجوداً. لضمان تطور إصلاح القطاع الأمني، لا بدّ من مراعاة ثلاث توصيات أساسية ذات صلة بأبعاد عملية إصلاح قطاع الأمن السياسية والمؤسسية والقانونية ويمكن تلخيصها ببضع كلمات على الشكل التالي: التوافق السياسي على إصلاح القطاع الأمني، الإشراف المؤسسي وقوانين الشرطة الجديدة.

تبدو مشاركة الشركاء الديمقراطيين الدوليين، كالمملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الديمقراطيات في إصلاح قطاع الأمن في العالم العربي مفيدةً لنقل المعرفة، على سبيل المثال، تدريب النواب على أفضل سبل الإشراف، تدريب الشرطة على إدارة أعمال الشغب من دون تخريب وتقديم المساعدة لعدم تسييس المؤسسات الأمنية – وكذلك تأمين المعدات المتطورة وتدريب العناصر على استخدامها. ولكن الجنرالات المناهضين للإصلاح وبقايا النظام القديم وبعض مجموعات المعارضة قد يستعملون دعم الغرب لإصلاح قطاع الأمن في العالم العربي لتجريد إصلاح قطاع الأمن من الشرعية بوصفه مؤامرة أجنبية ترمي إلى إضعاف مؤسسات الأمن أو خرقها.

في مطلق الأحوال، لا يمكن إنجاز الانتقال الديمقراطي من دون استهداف الظلم والقضاء على التعذيب ووضع حدّ للحصانة التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية بينما يتمّ فرض سيطرةً مدنية منتخبة فعالة وقوية على القوى المسلحة والمؤسسات الأمنية. شكّلت الأهداف هذه جوهر الثورات التي شهدها العالم العربي في العام 2010 2011. هي أهداف لا بدّ من تحقيقها.