Commentary

Op-ed

هل يمكن للعراق أن يقرّب بين إيران ومجلس التعاون الخليجي؟

ترسل زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى النجف مؤخراً ومؤتمره الصحفي مع نظيره العراقي إبراهيم الجعفري في بغداد إشارات هامة تتركّز جميعها حول زيادة الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط. أولاً، تعتبر الحكومة الإيرانية أنّ الاتفاق النووي مع ستّ قوى عالمية يحلّ أي مخاوف بشأن إمكانية استخدام برنامجها النووي لأغراض عسكرية. وثانياً، توفّر الجوانب المشتركة في تراث البلدين جبهةً طبيعية لمحاربة خطر الطائفية والتطرف. وأخيراً، باتت إيران تمدّ فعلياً “غصن زيتون” في سياق التعاون مع جيرانها لحلّ الصراعات الإقليمية.

على عادته منذ توليه منصبه كوزير للخارجية في يوليو 2013، بدأ ظريف زيارته للعراق بمحطة أولى رسمية في مدينة النجف في جنوب البلاد. خلال تواجده في عاصمة الشيعة المقدسة هذه، التقى مع كبار رجال الدين والمسؤولين، بدءاً من آية الله العظمى علي السيستاني.

يمكن اعتبار رحلات ظريف المباشرة من طهران – ومدن أخرى، بما فيها جنيف في فبراير الماضي – إلى النجف رسالةً مفادها أنّ طهران تفهم أهمية رجال الدين في المناخ السياسي العراقي الحالي. وقد كان اللقاء بين ظريف والسيستاني رمزياً واستراتيجياً على حد سواء، وذلك بالنظر إلى أنّ الحكومة الإيرانية سعت وحصلت على تأييد ضمني للاتفاق النووي من كبار رجال الدين. وهذا أمرٌ استثنائي، نظراً لأنّ السيستاني لا يتولى أيّ منصب سياسي وقد تمت استشارته قبل الحكومة الاتحادية في بغداد.

على الرغم من أنّ السبب الرسمي لزيارته للسيستاني كان اطلاعه على الاتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية الستة، ركّزت تشاورات ظريف على آثار الاتفاق المترتبة على العلاقات الإيرانية-العراقية والإقليمية في مكافحة التطرف والإرهاب. تأكّدت رسالة ظريف إلى السيستاني في وقت لاحق في مؤتمر صحفي عقده مع الجعفري في بغداد، حيث نُقل عنه قوله إنّ “التعاون الدولي ضروري لمكافحة الإرهاب والتطرف… تساند إيران شعوب المنطقة لمحاربة تهديد التطرف والإرهاب والطائفية… رسالتنا لدول المنطقة هي أننا يجب أن نكافح معاً ضد هذا التحدي المشترك”، في إشارة إلى الدولة الإسلامية التي تُشكِّل تهديداً عاجلاً للمنطقة بأكملها.

من المهم أن نذكر أنّ المعنى الضمني الكامن وراء آخر زيارة لظريف إلى النجف قد يشير إلى إجماع متزايد من التأييد للاتفاق النووي بين صفوف القيادة الشيعية الدينية في كلّ من إيران والعراق. ويبيّن هذا التأييد التحدي الذي تواجهه الملكيات التي يقودها السنة في الخليج ما إذا كنت ترغب في أن تصبح من الحلفاء “الفعليين” في الحرب ضدّ الدولة الإسلامية.

وخلال المفاوضات التي أجرتها الحكومة الإيرانية مع القوى العالمية الستة وبعدها، حرصت على التأكيد على تفاؤلها الحذر من أنّ الصفقة ستأتي بعهد جديد من السلام والاستقرار إلى المنطقة. وقد كان هذا الحرص على الرغم من أنّ بعض وسائل الإعلام قد ركّزت على الخوف الحقيقي والقلق الذي انتاب المنطقة بالنظر إلى الفوارق التاريخية والدينية والسياسية.

من الممكن أن نلحظ بوادر محتملة أخرى من التهدئة الإيرانية، إذ يمكن القول إنّ حدّة العمليات العسكرية قد خفّت في اليمن وانسحب الحوثيون المدعومون من إيران من أجزاء كبيرة من عدن. ومن ناحية أخرى، يواصل الإيرانيون توفير الدعم الاستراتيجي واللوجستي للقوات المسلحة في العراق وسوريا لمحاربة الدولة الإسلامية. يفهم الإيرانيون الجغرافيا السياسية ذات الصلة بمحاربة هذا التنظيم، وهي بالتالي عازمة أيضاً على التقارب مع تركيا. ومع ذلك، فإنّ موافقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن تكون بلاده جزءاً من التحالف الدولي ضدّ الدولة الإسلامية قد وفّر لأنقرة فرصة لخدمة مصالحها الذاتية ومهاجمة عدوها منذ فترة طويلة، ألا وهو حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراقي. وقامت بغداد على الفور وبشكل صريح بإدانة انتهاك أردوغان للسيادة العراقية، على الرغم من موقف أربيل الخجول من هجوم أنقرة على أهداف كردية. يمكن القول إنّ التحالف الدولي ما زال ينتظر تلقي رسالة واضحة بشأن طبيعة ومستوى الدعم المقدّم من الحكومة السعودية لمحاربة الدولة الإسلامية، ولكن يبدو من عطلة الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود في فرنسا – برفقة حاشية ملكية لم يسبق لها مثيل – أنه على الرغم من أنّ السعودية قد عانت من هجمات على أراضيها ضد مساجد شيعية، لا يعتبر آل سعود أنّ التنظيم يشكّل خطراً واضحاً وقائماً على سلطتهم.

ينبغي اعتبار زيارة ظريف الأخيرة إلى العراق على أنها تبعث برسائل عدة تهدف جميعها إلى التمهيد لعلاقات جديدة ووثيقة أكثر مع حلفاء إيران والدول المجاورة لها.

أما بالنسبة إلى اللاعبين العراقيين، فتشير إيران إلى أنها تقف بحزم مع عراق موحد وذي سيادة، وتعارض أيضاً أي اعتداء خارجي من الدول المجاورة خارج حدودها. وعلاوةً على ذلك، تبقى الرسالة أنه متى يتعلق الأمر بالقضايا الإقليمية، ينبغي لنظراء العراق الإقليميين التعامل مع العراق على مستوى الدولة وتجنّب إعطاء الأولوية لإقليم كردستان العراقي بدل بغداد، مما يمكن أن يقوّض الأمن والاستقرار الوطنيين والإقليميين. وقد أكّد ظريف على هذه النقطة بالتحديد بعدم زيارة إربيل في آخر جولة له في العراق.

أما رسالة إيران إلى أصحاب المصلحة الإقليمية، فهي أنّ التصعيد ليس من مصلحة أي بلد على الصعيد الوطني، وأنّ التعاون هو السبيل الوحيد القابل للتطبيق من أجل إقامة علاقات دائمة تخدم الأجيال القادمة. وعلاوةً على ذلك، فإنّ الإشارة إلى الانفتاح الإيراني السلمي على خلفية الاتفاق النووي هو فرصة لجميع دول مجلس التعاون الخليجي لتدعم بنشاط الحكومة العراقية في حربها ضد الدولة الإسلامية. فمن دون هذا الدعم، ستحمل تداعيات أعمال هذا التنظيم التي لا مفرّ منها عواقب كارثية على المنطقة.

العراق في الواقع هو آخر خطّ دفاع لدول مجلس التعاون الخليجي ضدّ وباء التطرف. فتمويل أو تسهيل الحروب بالوكالة لن يؤدي إلَّا إلى إشعال وقود الطائفية والمنافسات الإقليمية، في حين يستنفد أكثر الموارد التي ثمة حاجة إليها والتي يمكن استخدامها لتطوير الاقتصادات والحكم الإقليمي وتحسين حقوق الإنسان، لا سيما في ضوء التحولات الزلزالية في سوق النفط العالمي حالياً.

تذهب الآثار المترتبة على الاتفاق النووي لكلّ من إيران وجيرانها إلى ما هو أبعد من منع تطوير قنبلة نووية إيرانية. بدلاً من ذلك، يقدم الاتفاق فرصة غير مسبوقة منذ الثورة الإيرانية لنقلة نوعية في مفهوم ومضمون العلاقات الإيرانية العربية لحلّ صراعات إقليمية لا تهدد شبه الجزيرة العربية فحسب، بل الأمن العالمي ككلّ. تبعث آخر زيارة لظريف إلى العراق رسالةً واضحة إلى الدول المجاورة للعراق مفادها أنّ هذا البلد ما زال وسيظلّ نقطة التحوّل في هذه العلاقات في الشرق الأوسط، وأنّ مدينة النجف المقدسة هي المفتاح لاستقرار العراق.