Commentary

Op-ed

هل سقط حكم العسكر في مصر؟

شكلت قرارات الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي بإقالة قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة (المجلس العسكري) -المشير محمد حسين طنطاوي ونائبه الفريق سامي عنان- مفاجأة لدى الكثير من المراقبين. فمحاولة إعادة التوازن بين السلطة المدنية المنتخبة والمؤسسة العسكرية كانت دوما من الخطوط الحمر في مصر حتى الأمس القريب.

فحقاً كانت هذه المرة الأولى في تاريخ مصر القديم والحديث التي يُقدِمْ فيها رئيس مدني منتخب على فَصل قادة المؤسسة العسكرية وتجميد قراراتهم الأخطر، المتمثلة في الإعلان الدستوري المكمل الصادر في 17 يونيو/حزيران 2012.

بل يمكن القول إنها المرة الأولى في التاريخ السياسي المصري التي يُقدم فيها رئيس مدني منتخب على محاولة سيطرة حقيقية على القطاعين العسكري والأمني، وتلك هي نقطة الفصل الحقيقية بين السلطوية والديمقراطية.

العسكر والثوار

هتاف “يسقط يسقط حكم العسكر.. احنا الشعب الخط الأحمر” كان الأشهر في مصر منذ مارس/آذار 2011 عندما أدرك الثوار أن أهدافهم لا تتطابق كلية مع أهداف المجلس العسكري. فما جمعهم كان عدوا مشتركا تمت الإطاحة به في 11 فبراير/شباط 2011.

وما فرقهم كان الكثير، بدءاً من رفض الثوار وصاية المجلس العسكري على الثورة، ومرورا بطريقة إدارته للمرحلة الانتقالية، وانتهاء بحفاظ المجلس على شخصيات وسياسات من بقايا نظام حسني مبارك.

اندلعت المواجهات بين بعض قوى الثوار والمجلس العسكري منذ أبريل/نيسان 2011، كان أبرزها أحداث ماسبيرو (أكتوبر/تشرين الأول 2011) ومجلس الوزراء (ديسمبر/كانون الأول 2011)، وربما أشرسها على الإطلاق أحداث شارع محمد محمود المتفرع من ميدان التحرير، إذ سقط فيها فوق الأربعين قتيلا في صفوف الثوار.

وكان السبب المباشر لهذه الأحداث وثيقة “فوق دستورية” أصدرها علي السلمي نائب رئيس الوزراء لشؤون التحول الديمقراطي، وأعطى فيها المؤسسة العسكرية صلاحيات موسعة (وإن كانت أقل من صلاحيات الإعلان الدستوري المكمل).

ومع ذلك استطاع المجلس العسكري أن يدير عمليتين سياسيتين كبيرتين كانتا عماد مَؤسَسَة الثورة، وهما الانتخابات البرلمانية والرئاسية. ورغم النجاح، فقد كان المجلس يملك دوما الضغط على “زر إعادة البدء” إن لم يتفق مع النتائج.

فكان أن تم حل البرلمان بقرار من المجلس، بعد حكم من المحكمة الدستورية ببطلان جزء من القانون الانتخابي. ثم أصدر المجلس إعلانا دستوريا مكملا يعطيه الصلاحيات التشريعية المقررة للبرلمان، وحق تشكيل الجمعية الدستورية خلال أسبوع بالتعيين إن حال مانع دون استكمال الجمعية الحالية لكتابة الدستور، وكذلك حق الضبطية القضائية (اعتقال المدنيين) للشرطة العسكرية.

بعبارة أخرى، كان الإعلان انقلابا عسكريا بصيغة قانونية، وبدعمٍ من بعض قضاة المحكمة الدستورية العليا. وتم إصدار الإعلان قبل إعلان نتيجة الرئاسية تحسبا لفوز الرئيس محمد مرسي.

الرئيس والبدائل

تغير الوضع سريعا بعد فوز الرئيس محمد مرسي بالانتخابات أمام مرشح النظام السابق ورئيس وزراء مبارك الفريق أحمد شفيق في 24 يونيو/حزيران 2012. فبعد أقل من شهرين من انتخابه ألغى الرئيس المصري الإعلان الدستوري المكمل وأقال مُصدرِيه.

وكانت البدائل للقادة المقالين موفقة عمليا. فقد عيّن الرئيس الفريق عبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاع. والفريق السيسي لم يكن ضمن الجناح الذي ناضل من أجل إبقاء مبارك في الحكم وقت الثورة، وناضل مرة أخرى من أجل خروج آمن ومشرف له (قاد هذا الجناح في المؤسسة العسكرية اللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق).

ويعد الفريق السيسي أَخبر أعضاء المجلس العسكري بالوضع الداخلي للجيش والتيارات المختلفة داخله، نظرا لمنصبه السابق كمدير للمخابرات العسكرية المصرية، وستكون تلك الخلفية ذات فائدة عظيمة للرئيس.

وكان تعيين المستشار محمود مكي -وهو أخ وزير العدل المستشار أحمد مكي- نائبا للرئيس بمثابة رسالة طمأنة للقضاة الذين دخل بعضهم -بقيادة رئيس نادي القضاة أحمد الزند- في مواجهة إعلامية مع الرئيس مرسي. والمستشار مكي هو أحد قادة “تيار الاستقلال” داخل القضاء المصري، وهو التيار الذي عارض بشدة افتئات السلطة التنفيذية وقت الرئيس المخلوع حسني مبارك على السلطة القضائية. كما عارض مكي تزوير الانتخابات، ونشر قائمة سوداء للقضاة المتهمين بالمساعدة في تزوير انتخابات 2005.

وقد بدأ مكي حياته ضابطا في قوات الأمن المركزي، وهو ما سيعطيه بعض الخبرة في التعامل مع ملف إصلاح قطاع الأمن، أحد أبرز الملفات أمام الرئيس مرسي.

ماذا سيأخذ قادة المؤسسة العسكرية الجدد؟

والواقع أن أي مؤسسة عسكرية ستكون لها مطالب محددة في الفترات الانتقالية، بغض النظر عن أسماء قادتها. تتراوح تلك المطالب وآليات تحقيقها ما بين النموذج الجزائري (سيطرة شبه مطلقة عبر القمع المباشر وغير المباشر)، والنموذج التركي في الثمانينيات (سيطرة عبر حق النقض من خلال دستور يـُقنِّنْ تدخل العسكر في السياسة)، والنموذج الإسباني في الثمانينيات (تفاوض يؤدي لتسوية تضمن الكلمة الأخيرة للسلطة المنتخبة).

أما الحالة المصرية فستشهد حوارا بين مؤسسة الرئاسة والقادة العسكريين الجدد حول ثلاثة ملفات حساسة على أقل تقدير: 1) حق النقض لقادة المؤسسة العسكرية فيما يتصل بالسياسة العليا. 2) استقلال ميزانية الجيش ومؤسساته الاقتصادية.

3) الحصانة القانونية من الملاحقة القضائية لقادة المؤسسة العسكرية. حق النقض فيما يتصل بالسياسة العليا سوف يتضمن أي قضية تمس الأمن القومي أو السياسة الخارجية الحساسة، وفي المقام الأول العلاقات مع أميركا وإسرائيل وإيران.

تشكيل الحكومة و تغيير موازين القوى

وقبل إقالة قادة المجلس العسكري، كانت هناك دلائل تشير إلى اعتماد مؤسسة الرئاسة إستراتيجية مواجهة لا خنوع. فبالرغم من ذهاب عشر حقائب وزارية فقط من خمس وثلاثين إلى القوى المؤيدة للتغيير، فإن اختيار الوزراء العشرة كان بارعاً من الناحية الإستراتيجية.

فقد ذهبت خمس وزارات -الإعلام، والتعليم العالي، والشباب، والقوى العاملة، والإسكان- إلى حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين.

كما حصلت شخصيات أخرى مؤيدة للثورة على حقائب وزارية مهمة كالتعليم، والشؤون القانونية والمجالس النيابية، والصناعة والتجارة الخارجية، والحقيبة الأكثر أهمية: وزارة العدل.

وفي ضوء معارك الإخوان المسلمين وقوى التغيير المقبلة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. فإن كل هذه الوزارات تمثل قوة ناعمة منخفضة التكلفة، أي مؤسسات رسمية قادرة على تعزيز قدرة القوى المؤيدة للتغيير على التعبئة والحشد، ومنحها الشرعية الدينية الرسمية، وإزالة تهديد القمع القضائي “القانوني”، وإذا أضفنا لذلك تعزيز قوة الشبكات غير الرسمية على الأرض، فإننا نجد أنفسنا أمام الإستراتيجية المشار إليها، والتي تهدف لتعزيز القوة ناعمة دون تكاليف المواجهة.

أما التحرك الأكثر جرأة فتم بعد أحداث سيناء المأساوية بإقالة اللواء مراد موافي (مدير المخابرات العامة، وقبلها نائب اللواء عمر سليمان)، وهو محسوب على جناح الأخير المشار إليه سابقاً، وكذلك إقالة اللواء حمدي بدين (قائد الشرطة العسكرية) الذي يتهمه الثوار بارتكاب جرائم قتل وتعذيب ضدهم، واللواء محسن مراد (مدير أمن القاهرة) المتهم من ِقبَل الثوار وكذلك “الائتلاف العام لضباط الشرطة” (تنظيم شرطي إصلاحي) بتصعيد القمع أثناء أحداث محمد محمود المشار إليها ورفض التفاوض، وكذلك معاداة أي محاولة لإصلاح وزارة الداخلية. والأخير ينتمي لفصيل داخل الوزارة يُطلق عليه بعض ضباط الشرطة لقب “رجال العادلي” (نسبة لحبيب العادلي وزير داخلية مبارك المدان بجرائم قمع).

وبعد ذلك التشكيل الحكومي وإقالة بعض اللواءات المحسوبين على النظام السابق، تم التحرك ضد رئيس المجلس العسكري ونائبه. فبعض قادة المؤسسة العسكرية ما زالوا ينظرون إلى حركة الإخوان المسلمين التي انتمى إليها الرئيس كحركة عالمية عابرة لحدود الدولة المصرية.

وبالتالي يخشى هؤلاء القادة توريطهم في مواجهات خارجية بسبب تشعب علاقات الحركة ووجود أفرع نشطة لها في الجوار الإقليمي، كما هو الحال في ليبيا وسوريا والسودان وغزة وباقي فلسطين، وهو ما قد حدث مثلا وقت الرئيس جمال عبد الناصر.

وفي ظل رئيس إسلامي وعد حزبه السابق أكثر من مرة بمراجعة أهمية السلام مع إسرائيل، فمن المرجح أن يكون هذا الملف على رأس أولويات الحوار.

أما المؤسسة الاقتصادية العسكرية التي تستفيد من رسوم جمركية وأسعار صرف تفضيلية، وإعفاء من الضرائب، وحق مصادرة الأراضي دون الدفع للخزانة العامة، وجيش من العمال شبه المجانيين (عبر التجنيد الإجباري)، فإنها تشكل ملفا آخر شائكا.

ففي ظل معاناة الاقتصاد المصري الآن، قد يسعى الساسة المنتخبون إلى تحسين الظروف من خلال التحرك ضد الأصول المدنية التي تمتلكها المؤسسة العسكرية، وتحديدا من خلال إعادة النظر في الرسوم الجمركية، وأسعار الصرف التفضيلية، وأثمان الأراضي المصادرة، وفرض شكل من أشكال الضرائب، ليذهب كل ذلك لخزانة الدولة.

ولا تشكل الحصانة ضد الملاحقة القضائية قدراً أقل من الأهمية. ففي ظل مطالبة بعض الثوار بمحاسبة قادة المجلس العسكري، وتأكيد الرئاسة على تشريفهم ومنحهم أعلى وسام للدولة (قلادة النيل) وتعيينهم مستشارين، قد يشكل هذا الملف أزمة بين بعض الثوار ومؤسسة الرئاسة. ونظرا لأعداد الضحايا وثقل آليات الضغط الشعبي وحساسية الموقف سيُوضَع هذا الملف على أولويات الحوار.

وفي كل الأحوال، سيقبل القادة العسكريون الجدد بأقل مما طمح إليه قادة المجلس العسكري، وهو مُلَخَص بوضوح في الإعلان الدستوري المكمل: سلطة قادة الجيش الجزائري مع الشرعية الدستورية لقادة الجيش التركي في الثمانينيات. وذلك يعني إفشال الثورة، الإعلام، عملية التحول الديمقراطي برمتها.

تشكيل الحكومة و تغيير موازين القوى

وقبل إقالة قادة المجلس العسكري، كانت هناك دلائل تشير إلى اعتماد مؤسسة الرئاسة إستراتيجية مواجهة لا خنوع. فبالرغم من ذهاب عشر حقائب وزارية فقط من خمس وثلاثين إلى القوى المؤيدة للتغيير، فإن اختيار الوزراء العشرة كان بارعاً من الناحية الإستراتيجية.

فقد ذهبت خمس وزارات -الإعلام، والتعليم العالي، والشباب، والقوى العاملة، والإسكان- إلى حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين.

كما حصلت شخصيات أخرى مؤيدة للثورة على حقائب وزارية مهمة كالتعليم، والشؤون القانونية والمجالس النيابية، والصناعة والتجارة الخارجية، والحقيبة الأكثر أهمية: وزارة العدل.

وفي ضوء معارك الإخوان المسلمين وقوى التغيير المقبلة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. فإن كل هذه الوزارات تمثل قوة ناعمة منخفضة التكلفة، أي مؤسسات رسمية قادرة على تعزيز قدرة القوى المؤيدة للتغيير على التعبئة والحشد، ومنحها الشرعية الدينية الرسمية، وإزالة تهديد القمع القضائي “القانوني”، وإذا أضفنا لذلك تعزيز قوة الشبكات غير الرسمية على الأرض، فإننا نجد أنفسنا أمام الإستراتيجية المشار إليها، والتي تهدف لتعزيز القوة ناعمة دون تكاليف المواجهة.

أما التحرك الأكثر جرأة فتم بعد أحداث سيناء المأساوية بإقالة اللواء مراد موافي (مدير المخابرات العامة، وقبلها نائب اللواء عمر سليمان)، وهو محسوب على جناح الأخير المشار إليه سابقاً، وكذلك إقالة اللواء حمدي بدين (قائد الشرطة العسكرية) الذي يتهمه الثوار بارتكاب جرائم قتل وتعذيب ضدهم، واللواء محسن مراد (مدير أمن القاهرة) المتهم من ِقبَل الثوار وكذلك “الائتلاف العام لضباط الشرطة” (تنظيم شرطي إصلاحي) بتصعيد القمع أثناء أحداث محمد محمود المشار إليها ورفض التفاوض، وكذلك معاداة أي محاولة لإصلاح وزارة الداخلية. والأخير ينتمي لفصيل داخل الوزارة يُطلق عليه بعض ضباط الشرطة لقب “رجال العادلي” (نسبة لحبيب العادلي وزير داخلية مبارك المدان بجرائم قمع).

وبعد ذلك التشكيل الحكومي وإقالة بعض اللواءات المحسوبين على النظام السابق، تم التحرك ضد رئيس المجلس العسكري ونائبه.

مستقبل العلاقات المدنية/العسكرية في مصر

بوسعنا أن نعتبر النتيجة الأفضل والأكثر توزانا في الصراع بين السلطة المدنية المنتخبة والمؤسسة العسكرية هي تلك الأشبه بما حدث في إسبانيا عام 1982. فبعد فوز حزب العمال الاشتراكي الإسباني في الانتخابات البرلمانية وتشكيله للحكومة في شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، قبلت المؤسسة العسكرية اليمينية قواعد اللعبة الديمقراطية الجديدة، وأحبطت محاولة انقلاب سعت إلى عرقلة تقدم اليسار.

كما بادر حزب العمال الاشتراكي الإسباني إلى إعادة ترتيب صفوفه بشكل أكثر اعتدالا، فتخلى عن السياسات الماركسية، وقاد برنامجاً إصلاحياً شاملاً أطلق عليه اسم “التغيير”.

وأدت الإصلاحات إلى تولي أستاذ جامعي مدني يساري (هو نارسيس سيرا) حقيبة الدفاع، واستطاع الأخير تنفيذ عدة إصلاحات هيكلية وقانونية غيرت توازن القوى لصالح السلطة المدنية.

حدوث مثل هذا السيناريو في مصر من شأنه أن يعزز آفاق التحول الديمقراطي.

فالفصل الأخير في هذه العملية هو ضبط العلاقة بين السلطة المنتخبة والمؤسستين العسكرية والأمنية. وكان من الواضح أن قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يُظهِروا رغبة في محاكاة جنرالات إسبانيا أو الموافقة على أي سيناريو قريب من ذلك.

أراد ثوار يناير العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. ولم يروا أن السبيل لتحقيق ذلك سيكون عبر مجلس عسكري غير منتخب. ورأى معظمهم المؤسسات المنتخبة التي تضمن آليات المراقبة والمحاسبة والتطهر من سلوكيات القمع والفساد هي السبيل الأكثر أمناً والأقل تكلفة.

وكان الامتحان الأصعب والأخطر هو المجلس العسكري، وبإقالة قادته وتعيينهم “مستشارين” للرئيس، خطت مصر خطوة أخرى نحو الانتهاء من دولة الضباط والتقدم إلى دولة المؤسسات.