Commentary

Op-ed

عنف الدولة ومفقودو الجزائر: معركة الحقيقة والذاكرة

Algerian mothers hold up photographs of their disappeared loved ones during a protest outside the office of a human rights group in Algiers September 28, 2005. For a decade, dozens of mothers have held sit-ins once a week outside the office demanding the return of their loved ones or information about their fates. Algeria's national referendum, which will be held on September 29 aims at ending more than a decade of conflict which will help Islamists reach their goal of forming a purist Islamic republic ,an influential former leading militant said on Monday. REUTERS/Louafi Larbi

أخي واحدٌ من الجزائريين العشرين ألفاً الذين غدوا ضحيّة الاختفاء القسري في الحرب الأهلية التي نشبت في التسعينيات. وقد حصدت هذه الحرب عينها أرواح مئتي ألف جزائري أيضاً. بسبب هذه الأحداث، أعمل ضمن منظّمة “أس. أو. أس. مفقودون” (SOS Disparus) ومع عائلات الضحايا، سعياً للحقيقة والعدالة وللحؤول دون اندثار هذه الجرائم من الذاكرة الجماعية. وتتعرقل هذه العملية بسبب النظام الجزائري العسكريّ القيادة الذي لا يتقبّل الآراء المعارضة والذي شوّه معنى المصالحة الوطنية.

في خلال التسعينيّات، كان للأنظمة السياسية والعسكرية الجزائرية استراتيجيةٌ مزدوجة. فقد غذّت من جهة جهودَ الحرب واستغلت الوسائل الإعلامية العامة والخاصة لأغراض الدعاية. ومن جهة أخرى، نشرت الخوف في النفوس من خلال قمع وحشي وعمليات إخفاء قسري نفّذها الجيش وعملاء الأجهزة الأمنية والشرطة والميليشيات التي تُسمّى وطنية ومجموعات الدفاع الشرعي والمخبِرون بثياب مدنية.

ومع شعبٍ يتملّكه الخوف وغارق في حرب أهلية دموية ومدمّرة، كان للسلطات كاملُ الحرّية لتطبّق تغييرات هيكلية اقتصادية مدمِّرة بمساعدة صندوق النقد الدولي. وقد أدّت إجراءات التقشّف المطبَّقة بموجب برنامج التعديل الهيكلي الذي طلبه صندوق النقد إلى ارتفاع معدّل البطالة وتراجع القدرة الشرائية وانخفاض قيمة الدينار الجزائري وتسريح جماعي للعمال في القطاع العام.

وهذه الإساءات السياسية والاجتماعية الاقتصادية هي ما يدفع منظّمة “أس. أو. أس. مفقودون” مع عائلات المفقودين إلى السعي للحقيقة والعدالة والمصالحة الوطنية. لذا في 31 أغسطس 1998، اجتمعت عائلات المفقودين للمرّة الأولى في الجزائر العاصمة، وأطلقت مسيرات أسبوعية تطالب بالعدالة والحرّية، على غرار ما تقوم به أمّهات ساحة مايو في بوينس أيرس منذ العام 1977. ومع أنّ الدولة الجزائرية حاولت قمع هذه العائلات استمرّت بالمطالبة بمعلومات عن أحبّائها.

وبعد سنوات من الكفاح، تأسّست منظّمة “أس. أو. أس. مفقودون” للدفاع عن مآسي هذه العائلات. فبدأت في العام 1998 بإقامة احتجاجات أسبوعية في العاصمة. وفي خلال كلّ احتجاج، تعرّض المشاركون للمضايقات والاعتقالات من الشرطة. لكنّ عائلات المفقودين حافظت على سلمية كفاحها، مع الاستمرار بهدفها بالحصول على تعويضات من خلال مسار قضائي مستقلّ.

وحاول النظام طمس مأساة المفقودين الوطنية بعدد من الطرق. فقد أقرّ مثلاً “مرسوم تطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” في العام 2008 الذي يهدّد بمعاقبة العائلات التي تنشد الحقيقة حول أحبّائها المفقودين بالسجن والغرامات. وهذا الميثاق عبارة عن قانون عفو يهدف إلى تعطيل أيّ نقاش عام حول جرائم الماضية البشعة. وما دامت عائلات المفقودين فقيرة بمعظمها، يقدّم لها النظام أيضاً منحاً صغيرة، على شكل “تعويضات”، مقابل صمتها. فباتت العائلات عندئذ بين المطرقة والسندان: فإما يتمّ شراء سكوتها أم تتابعُ بحثَها الصعب عن أحبّائها مع مواجهة تداعيات قاسية من الحكومة وأجهزتها. في كلتا الحالتَين، لن يصدُر أيّ اعتراف بمسؤولية الحكومة حيال أولئك المخفيّين قسراً.

وتقيم منظّمة “أس. أو. أس. مفقودون” لقاءات سنوية لتعزيز مسار العدالة الانتقالية ولحماية ذاكرة الجزائر الجماعية. وتتعاون أيضاً مع منظّمات وطنية أخرى، مثل صمود وجزائرنا، تمثّل العائلات التي كانت ضحيّة للإرهاب. علاوة على ذلك، تعمل مع خبراء من المجتمع المدني من الشيلي والبيرو والمغرب والأرجنتين حظوا بتجارب مماثلة في مجال العدالة الانتقالية. مثلاً، بالتعاون مع المجتمع المدني الأرجنتيني والمغربي، نظّمت “أس. أو. أس. مفقودون” لقاء وجلسة تدريبية ليومين في العاصمة الجزائرية حول ذاكرة الضحايا ومسألة التعويضات. وركّز الاجتماع على تقنيات تحديد البقايا البشرية من خلال الحمض النووي، وهذا يمكن أن يكون مفيداً لجهود تحديد هوية الضحايا في المستقبل.

وتواجه عائلات المفقودين تحدياً آخر في بحثهم عن الحقيقة، ألا وهو عندما يتحالف القضاء مع النظام السياسي. فبعدما وجدت عائلات المفقودين نفسها معزولة وفي وسْط حرب أهلية، غاصت في متاهة المحاكم بحثاً عن أيّ معلومات عن أحبّائها، لكنّها لم تجد أمامها سوى ردّ عدائي من وسائل إعلام الدولة وقضاء مليء بالكره واللامبالاة.

وعلى الرغم من التقدّم بمئات الشكاوى بشأن حالات الاختفاء القسري، قال المحامون إنّ لا علم لهم بأيّ قضية حدّدت موقعَ مفقود أو وجّهت اتّهامات ضدّ الأجهزة الأمنية. فغدا بذلك القضاء مقبرة للحرّية عوضاً عن أن يكون مساحة لها.

وتحاول الدولة الجزائرية تقييد معركة المجتمع المدني الجزائري للوصول إلى الحقيقة والذاكرة من خلال وسائل قانونية وسياسية. واستمرار هذه المعركة شهادة على أهمّية الجهود التي تبذلها عائلات المفقودين للوصول إلى الحقيقة وحماية ذكرى أحبّائها. ومع أنّ الجزائر لم تشهد بعد انتقالاً سياسياً يؤدّي إلى عملية وصول حقيقية للعدالة الانتقالية، يدرك المجتمع المدني والمحامون والضحايا وعائلاتهم خير إدراك قيمةَ البحث عن الحقيقة، مع دولة أو بدونها.