Commentary

Op-ed

داعش قوة متعصبة لا تخلو من نقاط الضعف

سقطت الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، الأسبوع الماضي بين أيدي الدولة الإسلامية في العراق والشام أو ما يسمى بتنظيم داعش. في غضون بضع ساعات، ترك أفراد الجيش والأمن أسلحتهم وعتادهم ولاذوا بالفرار من المدينة. مذاك، فرض المسلحون ميثاقاً سياسياً في الموصل واتجهوا جنوباً فارضين سيطرتهم على المزيد من البلدات الواقعة على الطريق التي توصلهم إلى العاصمة بغداد.

مع بسط سيطرتها على الموصل وحدها، وضعت داعش يدها على أكثر من 425 مليون دولار نقداَ وكمية غير محددة من السبائك الذهبية وكميات كبيرة من الأسلحة الخفيفة والثقيلة (الأمريكية الصنع بمعظمها)، وعلى الأرجح أنها كسبت مئات من المجندين الجدد من خلال سيطرتها على ثلاث مراكز اعتقال رئيسة. 

بدأ هذا الهجوم الذي يتخذ من العراق مركزاً له منذ سنتين على الأقل. بعد انسحاب القوات العسكرية الأمريكية الأخير من العراق في 31 ديسمبر 2011، بدأت الدولة الإسلامية في العراق في ذلك الوقت تسترد عافتيها تدريجياً ولكن بشكلٍ ثابت – لتلائم غاية التنظيم والذي ينادي بالبقاء والتمدد. وتمّ وضع الاستراتيجية وتنفيذها بدقة ضمن مراحل واضحة.

أساساً، أمضى هؤلاء المسلحون (داعش منذ أبريل 2013) في العراق سنتين لإخراج القادة الكبار من السجن، ولإستعادة بنية التحكم والسيطرة الاحترافية؛ توسيع نطاق العمليات ليشمل سوريا، ولاستغلال الصراع السني المتزايد مع رئيس حكومة الدولة التي يرأسها الشيعة بقيادة نوري المالكي مشجعين بذلك على الطائفية.  

ووسعت شبكات سرية مكثفة في المناطق السنية، لا سيما في الموصل وبغداد ومحافظة الأنبار؛ وزادت التفجيرات المنظمة وشبه المتزامنة؛ وأضعفت قدرة قوى الأمن العراقية ومعنوياتهم عبر حملةٍ مدبرة من التهويل والاغتيالات.   

ولداعش جذور مهمة في الموصل، حيث عملت على المحافظة على قوة فعالة أثناء تدفق القوات الأمريكية وبعدها. كان التنظيم قد جمع مؤخراً ما يتراوح بين مليون ومليوني دولار شهرياً في الموصل من خلال شبكة ابتزاز معقدة. هذه الحقيقة، بالإضافة إلى قرب الموصل من مواقع داعش في شرق سوريا، جعلت المدينة أرضاً طبيعية لانطلاق الضربة العدوانية هذه في العراق والتي تستهدف أساساً بغداد.  

إلا أن الحديث عن داعش لا يتوقف عند ذلك الحد. ينخرط عدد كبير من الفاعلين السنة المسلحين في ما تحول في الواقع إلى ثورة سنية مشكلين جماعات على غرار جيش رجال الطريقة النقشبندية، جيش المجاهدين، جماعة أنصار الإسلام، الجيش الإسلامي في العراق وعدد متنوع من المجالس العسكرية القبلية.   

قد تكون داعش أكبر قوة مشاركة في الأحداث (مع نحو 8000 مقاتل في العراق)، إلا أنها غير كافية للاستيلاء على عدد كبير من المناطق “الحضرية” والسيطرة عليها. فهي لا تزال تعتمد على العلاقة المترابطة مع ما لا يزال يعتبر متعاطفاً معهم ضمنياً ومساعداً لهم من السنة. إلا أن هذه “العلاقة” لا تتمتع بأي شكلٍ من الأشكال بالثبات ولا يجب أن تُعتبر أمراً مفروغاً منه ومضموناً. إذ لطالما فشلت الجماعة العسكرية في المحافظة على الدعم الشعبي، أو على الأقل، على القبول الشعبي. 

قد يشيد سكان الموصل بالاستقرار الحالي الذي تنعم به المدينة وأسعار الخبز والوقود المدعومة من قبل داعش، ولكن ما إن تبدأ عمليات الجلد والصلب وبتر الأطراف في الأماكن العامة ، ستتغير الأحوال تغييراً كلياً. في الحقيقة، لا عجب أن العناصر القبلية تستعد أصلاً لطرد داعش من المناطق التي سيطرت عليها.   

تعتمد توقعات المسلحين كذلك على الحكومة وعلى داعميها الذين يواظبون على إذكاء الطائفية – الأمر الذي يشجع السُنّة على قبول وجود داعش. للأسف، ساهمت دعوة المالكي في الأيام الأخيرة في تقوية هذه الطائفية الجلية للعيان، إذ دعا إلى تشكيل جيش تطوعي مشجعاً بذلك إعادة تشكيل عصائب أهل الحق، جيش المهدي وقوات بدر (ثلاث ميليشيات شيعية نشطت أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، والتي يبدو أنها تتلقى دعماً لتجنيد أفراداً جدد في هذه الجيش التطوعي). 

علاوة على ذلك، ارتفعت أسهم فكرة الطائفية داخل العراق وخارجه بفعل دعوات أخرى أطلقها مقتدى الصدر لتشكيل “سرايا السلام”، وتلك التي بادر إليها الشيعة في ديالى لتشكيل “لجان السلام” – وكذلك الدعوة التي وجهها آية الله علي السيستاني إلى العراقيين للتكاتف في وجه داعش. 

أما إيران فدورها مهم. فقائد فرقة القدس الإيرانية الخارجية، قاسم سليماني، موجود أصلاً في بغداد، وقد أفادت مصادر عراقية عن وصول 500 عنصر من الحرس الثوري الإيراني إلى العاصمة، وزعمت وصول 1500 عنصر من ميليشا الباسيج (قوات إيرانية شبه عسكرية) إلى ديالى. 

وبهذا، يبدو من الحكمة عند هذه النقطة، أن لا تنخرط الولايات المتحدة عسكرياً بشكلٍ ناشط في العراق، وأن تركز على الاحتواء وعلى الاستخبارات. ترتبط الصراعات في العراق وسوريا ارتباطاً معقداً – والعمل على صراع دوناً عن الآخر قد يشكل زلة استراتيجية. 

كان التمرد الذي شهده الأسبوع الماضي تمرداً لا غير. حمل المقاتلون بنادق وقادوا شاحنات محملة بمدافع رشاشة ثقيلة، في حين قاد آخرون سيارات مدنية وباصات صغيرة. كان وجود الأسلحة المضادة للصواريخ محدوداً (إلا أنه كان يتزايد بفضل سوريا)، وكانت الأسلحة المضادة للطائرات محصورة بالبنادق وبعض أنظمة الدفاع الجوي المحمولة على الكتف SA-7 القديمة. 

بالإضافة إلى كميات ضخمة من الأسلحة الصغيرة والذخيرة، استولت داعش خلال الهجوم الأخير على عدد من عربات الهمفي وآليات النقل العسكري الأمريكية الصنع وهاوترز ام 198 الأمريكية وربما على بعض طائرات الهيليكوبتر. وأشارت بعض التقارير أن مجموعات سنية أخرى استولت على كميات من ناقلات العسكر والدبابات. ولا يمكن التقليل أبداً من ما لذلك من تأثير على زعزعة الاستقرار في العراق. 

إلا أن الأمر لا يتوقف على العراق. بعد 12 ساعة من السيطرة على الموصل، أفادت بعض التقارير أن داعش نقلت عربات الهمفي والقوى البشرية وغير ذلك من الأسلحة إلى شرق سوريا. في غضون ذلك، وتحديداً يوم الخميس، أفادت تقارير مجموعة معنية بحقوق الإنسان أن جبهة النصرة التي تتخذ من سوريا مقراً لها عبرت مع مجموعات سنية أخرى معبر القائم في محافظة الأنبار العراقية واستولت على بعض عربات الهمفي. 

وبهذا لم تعد الحدود العراقية السورية ذات أهمية تُذكر – أصبح الصراع القائم في كلّ جانب من جانبي الحدود مترابطاً بالآخر ترابطاً طبيعياً. بصفتها المجموعة الوحيدة الفاعلة حقاً في كلا الجانبين، تحتفظ داعش باستراتيجية شاملة (استراتجية تهدف إلى إقامة دولة إسلامية موحدة وإقامة بلاد الشام)، حيث تغذي العمليات في سوريا والعراق بعضها البعض. بالنظر إلى الأحداث الأخيرة وزحفها إلى بغداد، قد لا يكون هذا الهدف معقولاً.

ولكن حذار من الوصول إلى نتائج مبسطة جداً. حصدت داعش بفعل سعيها القائم على مراعاة مصالحها الذاتية لتطبيق مثلها العليا عدداً لا يُحصى من الأعداء في سوريا، وستواجه تحديات ضخمة لتجنب مصير مماثل في العراق. رغم ذلك، أياً كان مصيرها، تشكل داعش قوةً هائلة تتميز بتنامي عدد أعضائها. 

يُعتبر الهجوم الأخير أهم حدث على الإطلاق في الجهاد السني منذ أحداث 11 سبتمبر. وإذ تحدت داعش شرعية تنظيم القاعدة الأيديولوجية، أكدت حالياً تفوقها العسكري لجيل متلقي أكثر شباباً وتعصباً من المتجندين المحتملين حول العالم. 

في حين يعتمد تنظيم القاعدة والمجموعات التابعة له استراتيجية أكثر تحلياً بالصبر ومحلية التركيز، تُظهر داعش إصراراً على تحقيق نتائج سريعة ودراماتيكية. وهذا ما أظهرته طبعاً في العراق. ولكن يبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كان ذلك سيثبت كاستراتيجية أكثر فعالية على المدى الطويل.