Commentary

Op-ed

تونس ومصر وما بعدهما: كلما قلت التوقعات، زادت البيانات والحاجة إلى المساعدة في الإصلاح

لم يتوقع أحد أن التصرف اليائس الذي قام به شاب تونسي بإشعال النار في نفسه احتجاجاً على سياسات الحكومة التي جعلت منه شخصاً عاطلاً عن العمل ومحروماً قد يؤدي إلى إشعال الاحتجاجات من أجل الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. فمنذ وقوع هذا الحدث، سقطت الحكومة التونسية وانتشرت التظاهرات في اليمن والأردن والجزائر والسودان ومصر، حيث خرج بالأمس فقط أكثر من مليون شخص إلى الشوارع للمطالبة بالإطاحة بالرئيس مبارك والذي يبدو أن أيامه أصبحت معدودة. كما أعلن الرئيس اليمني أنه لن يرشح نفسه في الانتخابات القادمة كما أنه لن يسعى لتسليم السلطة لابنه، فيما قام ملك الأردن بإقالة رئيس الوزراء والحكومة الأردنية بعد التظاهرات. كان العالم كله يراقب الأحداث وقد أدلى خبراء وساسة ومحللون في الشرق الأوسط بدلوهم في الأحداث الجارية، و تساءل الكثيرون عما إذا كان من المكن توقع هذه الموجة من الاضطرابات.

على النقيض من ذلك، فحتى أيام قليلة ماضية، كان المحللون لا يزالون يتوقعون أن عدم الاستقرار – بصرف النظر عن تغيير الأنظمة – لن يمتد إلى مصر، وبعضهم ألقى الضوء على لامبالاة المواطنين المصريين وتشاؤمهم واستسلامهم وخوفهم في توقع استمرار الوضع الراهن في مصر والقائم منذ فترة طويلة. “ليست هناك علامة تشير إلى قيام مصر بإتباع الطريق التونسي” كان هذا عنوان مقال للبي بي سي من القاهرة قبل أسبوعين فقط. يقول المقال إنه “لا يمكن لأحد وصف المجتمع المصري باعتباره “طموحاً”… فالمصريون لا يرون أي طريق لتغيير بلدهم أو حياتهم من خلال العمل السياسي، سواءٌ عن طريق التصويت أو الفعّالية أو الخروج إلى الشوارع للتظاهر”.

توقعت بعض وسائل الإعلام الكبرى الأخرى أن الوضع الراهن في مصر سيستمر، مستشهدين ببعض الحريات المحدودة باعتبارها سمة مميزة لمصر. فهدا مقال عن السياسة الخارجية صدر مؤخراً يرجح أن الرئيس المصري مبارك يختلف عن الحاكم التونسي المخلوع لأن مبارك يجمع بذكاء بين الحريات المحدودة و المشاركة في الاختيار ويتيح بعض الفرص للمصريين للتعبير عن مظالمهم السياسية. قالت مجلة الإكونوميست أن “صحافة مصر الحرة نسبياً لم تعط جواً صحياً للاحتجاج فحسبـ بل كانت بمثابة نوع من نظام الإنذار المبكر الذي يفتقر إليه الرئيس [التونسي] بن علي على نحو خطير، وذلك بسبب أساليبه القمعية”.

قد توقعت مجلة تايم أن الثورة التونسية لن تسفر عن “تأثير الدومينو” وأن الولايات المتحدة ستمنع مصر بشكل استباقي من اتباع مسار تونس، فيما قارنت كل من مجلة إكونوميست والبي بي سي بين ضعف قوات الأمن التونسية من جانب والتدريب المتميز والمعدات (التي قدمتها الولايات المتحدة بصورة عامة) الخاصة بمصر على الجانب الأخر. وقد أوضح خبير أخر في السياسة الخارجية قبل بضعة أيام سبب عدم انحياز الجيش المصري للشعب، على عكس ما حدث في تونس، إلا أن الجيش أعلن في بعد أيام قليلة أنه يحترم مطالب الشعب المشروعة.

لكي نكون منصفين، من السهل أن ننتقد الأمر بعد ظهور الحقيقة. ومع ذلك، فقد قام معظم المحللين بالتركيز على الاختلافات بين دول الشرق الأوسط للتأكيد على ضعف احتمالية انتشار الثورة التونسية في جميع أنحاء العالم العربي. وبالتالي، لم يتم إيلاء اهتمام كافٍ لحقيقة أن التشابهات الضرورية – لاسيما الحكام الدائمين وغياب الحريات والفساد والشباب المحرومين، والتي أدت جميعها إلى السخط الشعبي— ستفوق بكثير بعض الاختلافات المُدركة بين البلدان.

المساءلة الديمقراطية

تقيس مؤشرات الحكم العالمية، التي تم تجميعها منذ منتصف التسعينيات، ستة عناصر للحكم. أحد أهم هذه العناصر هو التعبير والمساءلة الديمقراطية. فمؤشر التعبير والمساءلة لا يشير إلى ما إذا كانت البلدان تُجري انتخابات فحسب، ولكنها أيضاً يشير إلى ما إذا كانت هذه الانتخابات متنازع عليها بمصداقية وتتسم بالشرعية والحرية والإنصاف، وما إذا كانت الحكومة عرضة للمساءلة أمام مواطنيها، وما إذا كانت هناك حريات أساسية للتعبير وتكوين الجمعيات بما في ذلك حماية الحريات الإعلامية والمجتمع المدني وانتهاكات حقوق الإنسان.

يتمثل الواقع المقلق في أنه من حيث التعبير والمساءلة الديمقراطية، تم تصنيف الشرق الأوسط بشكل سيء مقارنة ببقية العالم لسنوات عديدة. ومع بعض الاستثناءات القليلة، هناك اختلاف بسيط في هذا المؤشر في المنطقة بأكملها. والأسوأ من ذلك أنه على الرغم من أن المنطقة بدأت العقد الماضي بأداء ضعيف من حيث التعبير والمساءلة، فقد تدهورت معظم البلدان في المنطقة منذ وقت وأنهت العقد بأقل مستويات للتعبير والمساءلة.

يُظهر شكل 1 إلى أي مدى تأثر الشرق الأوسط سلباً بعجز شديد في المساءلة. في واقع الحال، تُصنّف جميع بلدان الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، في مؤخرة بلدان العالم من حيث التعبير والمساءلة. وفي داخل العالم العربي، تتصدر كل من لبنان والكويت بقية الدول، بيد أنها لا تزال مصنفة في مرتبة الثلث الأدنى في العالم. فيما نجد أن أداء دول الشرق الأوسط أسوأ وهي مصنفة في الربع الأدنى من التصنيف (25 في المائة أو أقل) فيما يتعلق بعنصر التعبير والمساءلة بما في ذلك تونس ومصر (فكلاهما دون المستوى على حد سواء). فيما يتم تصنيف بلدان مثل إيران و(شمال) السودان وسوريا والمملكة العربية السعودية وليبيا في القاع السفلي (10 في المائة أو أقل). ومن منظور عالمي أوسع، تم تصنيف الرتبة المئينية لمصر بقيمة 15.6 في 2009 (ما يعني أن هناك أكثر من 170 دولة حول العالم مصنفة في مرتبة أعلى من مصر) وهي نسبة سيئة مقارنة مع بلدان مثل جنوب إفريقيا (67 في المائة) والبرازيل (62) وغانا (61) وإندونيسيا (49). وبحلول نهاية العِقد، تم تصنيف مصر في مرتبة متساوية من حيث التعبير والمساءلة مقارنة بالبلدان مثل ساحل العاج وأنجولا والكونغو.

شكل 1: التعبير والمساءلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، 2000- 2009

0202_egypt_development_kaufmann_fig1.jpg
يتضح من الشكل 1 النمط المتدهور للتعبير والمساءلة خلال العقد الماضي بالنسبة لعدد من دول الشرق الأوسط على عكس مناطق أخرى. ومن الجدير بالذكر مرة أخرى أن هناك تدهوراً حاداً في التعبير والمساءلة في تونس، فيما شهدت مصر خلال هذه الفترة تدهوراً مشابهاً، لكنه ليس كبير بنفس القدر. هذه البيانات ذات طبيعة إجمالية على نحو لا يمكن إنكاره، وتوفر مرجعية واسعة لأداء الشرق الأوسط. ومع ذلك، فعلى ضوء التأكيدات التالية على الاختلافات الخاصة جداً بين بلدان الشرق الأوسط، فمن الجدير بالذكر أن البيانات تشير إلى تشابه هام بين بلدان الشرق الأوسط – وهو ما يعني أن الحريات الأساسية غائبة ومتدهورة.

في الواقع، عانت جميع الدول الثمانية السفلى في الشرق الأوسط في عام 2009 تدهوراً في التعبير والمساءلة منذ عام 2000، باستثناء العراق التي بدأت من أسفل القاع. وسيكون من السذاجة الاقتراح أن جميع هذه الدول عرضة الآن وبشكل متساوٍ للاضطرابات الرئيسية أو تغيير الأنظمة أو الإيحاء بأن تلك البلدان المصنفة فوق هذه القائمة مباشرة (الدول التي يُصنف أداؤها دون المستوى) ليست عرضة لهذه الاضطرابات. وهناك محددات متعددة ومعقدة وغير متوقعة للاضطرابات وتغيير الأنظمة، ولكن البدء بنظرة واقعية إلى العجز الديمقراطي سيكون مفيداً بالتأكيد.

حرمان الشباب من الحريات وبراعتهم في التعامل مع الأمور

كما يُعد الحرمان الذي أصاب الشباب في منطقة الشرق الأوسط دليلاً واضحاً في البيانات. ففي المتوسط، يُشكل الشباب نحو 30 في المائة من سكان الشرق الأوسط مقارنة بأقل من 20 في المائة في العالم المتقدم. بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم الشباب في الشرق الأوسط إلى محرومون اقتصادياً وسياسياً. وحتى قبل فترة الركود الأخيرة، تشير التقديرات إلى أن معدلات البطالة بين الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلغت 25 في المائة أو ضعف معدل البطالة في بقية أنحاء العالم. وبالنسبة لبعض البلدان، بما في ذلك مصر، اقترب معدل البطالة بين الشباب إلى 30 في المائة أو حوالي ستة أضعاف معدل البطالة بين البالغين، فمعظم الشباب يتعيشون على أقل من دولارين يومياً.

وقد تضاعفت الإحباطات الاجتماعية الاقتصادية للشباب في الشرق الأوسط بعدم قدرتهم على التعبير بحرية عن آرائهم وعدم القدرة على طلب التغيير عبر القنوات الديمقراطية. فهم شهود على انتخابات غير حرة وملوثة وقمع وسائل الإعلام والمجتمع المدني وفساد الحكومة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك آليات قليلة في موضع تحمل مساءلة الحكومات عن قراراتهم السياسية والاقتصادية. وفي ظل عدم توافر القنوات العادية، فإنهم يلجئون إلى طرق غير تقليدية للتنفيس عن إحباطاتهم. وعلى وجه الخصوص، فقد استخدموا وسائل الإعلام الاجتماعية بشكل ماهر (وتجنبوا حول الرقابة الحكومية) للتواصل وتنظيم أنفسهم وتعبئة الحركات الاحتجاجية.

المساءلة حول المعونة المقدمة من الدول الغنية

أثبتت الأحداث الأخيرة للقوى الغربية أن مواطني العالم العربي قادرون على تحديد مصائرهم بأنفسهم. ولكن الوضع الواضح في المنطقة يضمن إعادة النظر في تاريخ دعم الغرب للأنظمة الاستبدادية. دعونا نلقي نظرة على كيفية رد الدول المانحة على العجز الديمقراطي في الشرق الأوسط على مدى العقد الماضي. وبشكل إجمالي، وكما يوضح الشكل 2، كان المانحون غافلين عن الحكم الديمقراطي الفقير في المنطقة. في الحقيقة، على الرغم من أن التعبير والمساءلة تدهورا على مدى العقد الماضي، فقد زادت المساعدة بشكل ملحوظ، حتى عندما تم استثناء العراق من هذه العينة باعتبارها “حالة خاصة” (من 6.3 مليار دولار إلى 10.5 مليار دولار). فتقريباً يتم توجيه جميع المساعدات إلى البلدان التي تعاني عجزاً هائلاً في التعبير والمساءلة. في الحقيقة، يتم توجيه جميع مساعدات الإنماء من الدول المانحة تقريباً إلى دول الشرق الأوسط التي تعاني من انخفاض في مستويات المساءلة مقارنة بمستويات البلدان النامية الأخرى.

شكل 2: المساعدة الإنمائية والتعبير والمساءلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (باستثناء العراق)، 2000 – 2009

0202_egypt_development_kaufmann_fig2.jpg

قد يدافع البعض عن تخصيصات المساعدة تلك عن طريق اللجوء إلى الحجة السياسية التي مفادها أنه يتم توجيه المساعدة، بما في ذلك “المساعدة الإنمائية”، إلى دول الشرق الأوسط ليس لرفع مستوى المعيشة فحسب، ولكن لتحقيق أهداف سياسية وأمنية مع حلفاء غير ديمقراطيين. والمشكلة الأولى بشأن هذه الممارسة تكمن في أن العجز في الحكم يميل إلى تقويض التنمية وخلق فرص العمل لمحدودي الدخل وطبقة الشباب من السكان وبالتالي تؤدي إلى توليد السخط. أما المشكلة الثانية فتكمن في أنه لا يمكن التنبؤ بالثورات التي يقودها المواطنون هذه الأيام ضد الأنظمة غير الديمقراطية والتي يمكن أن تشتعل في كل مكان تقريباً. فبمجرد اشتعال الشرارة الأولى، تتسبب هذه الثورات في خفض أي “دعم” محتمل قد تقدمه المساعدات الأجنبية ويمكنه مساعدة هذه الأنظمة في الاستدامة خلال الأوقات التي تبدو مستقرة.

الأحداث التي وقعت في منطقة الشرق الأوسط هي بمثابة رسالة تذكير قوية بأنه قد حان الوقت لتجديد استراتيجيات المعونات للارتقاء بشكل ملموس بأولوية الحكم الديمقراطي في المساعدة الإنمائية. كما أنها بمثابة جرس إنذار للمحللين (ونحن منهم) لإعادة النظر في كيفية تقييم وقياس “الاستقرار السياسي” والمخاطر القُطرية في الأنظمة غير الديمقراطية. كما أنه تذكير بأنه يجب أخذ عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ على محمل الجد. فمقابل الخلفية الخاصة بالقوة المكتشفة حديثاً للشعب ووسائل الإعلام الاجتماعية، تُعد الأحداث المأساوية التي تنكشف أيضاً بمثابة رسالة تذكير قوية لكتابة تحليل سريع حول السباق العالمي، حيث أنه بمجرد أن تبدأ الأحداث في أن تنكشف، فالاندفاع في القيام بالتنبؤات يُعد أمر محفوف بالمخاطر، وبخاصة عندما يتم إيلاء القليل من الاهتمام لبيانات إجراء المقارنات المتوفرة.


مؤشرات الحكم الأخرى هي: الاستقرار السياسي/اللاعنف وفاعلية الحكومة ونوعية التنظيم وسيادة القانون ومكافحة الفساد. يمكن الإطلاع على البيانات الخاصة بكل عنصر بالإضافة إلى البيانات الأساسية هنا (رابط). ومن الجدير بالذكر أيضاً الإشارة إلى أن بلدان مثل تونس ومصر والأردن ولبنان واليمن والسودان وسوريا وإيران، بين الدول الأخرى، يشهدون انهياراً في مؤشر الاستقرار السياسي على مدى العقد الماضي.