Commentary

Op-ed

الديمقراطية في مصر لا تزال مهمة: فما السبب؟

ثلاث سنوات بعد مشاهد الربيع العربي المليئة بالأمل، والوضع العام في بعض البلدان كسوريا وليبيا أشبه بفوضى مأساوية. وربما كان لمصر الحصة الكبرى من الحظ السيء ، حيث جاءت ساحة التحرير لتجسد آمال عام 2011. شكلت مصر في ظلّ حكم حسني مبارك، الذي امتد على فترة طويلة من الزمن، مرساة استقرار في المنطقة، يُعزى ذلك بشكل كبير إلى علاقاتها الوثيقة مع اشنطن ولمعاهدة السلام التاريخية مع إسرائيل. ولكن مصر تشهد اليوم حالة اضطراب: إنّ حكومتها الثالثة التي تشكلت بعد الثورة، والتي عينّها الجيش، تضيّق الخناق على الحقوق الأساسية في الوقت الذي تواجه فيه تصاعداً في العنف من قبل المتشددين الإسلاميين، وأزمة اقتصادية، ونزعة شرسة معادية للولايات المتحدة شنتها وسائل الإعلام. ترفض جماعة الإخوان المسلمين المتهالكة أي تلميح عن التسوية وتتحدث إلى أتباعها عن الشهادة. يبدي العديد من المحللين خارج مصر قلقاً من أنّ المواجهة الجارية حالياً في مصر ومحصلتها النهائية صفر، تجرّ البلاد إلى مزيد من العنف.

في ضوء هذه التطورات المقلقة، يبدي البعض استعداداً لاستنتاج أن مصر “غير مستعدة” للديمقراطية، أو أن الربيع العربي لم يكن إلا مدخلاً للمتطرفين للسعي إلى “شتاء إسلامي”. يبدو مفهوماً السبب الذي من أجله يتساءل اليهود الأمريكيون بشكلٍ خاص ما إذا كانت سياسات مصر المضطربة تسبب المشاكل لإسرائيل، وما إذا كان النظام المصري القديم أفضل لاستقرارها. إلا أن أيام حكم الرجل الواحد في مصر ولّت ولن تعود. بات مستقبل الشرق الأوسط اليوم متاحاً أمام الجميع مستقبل يهم بشدة كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة ولن ينتج الاستقرار الحقيقي إلا من خلال مقاومة الحاجة إلى فرض قيود صارمة.

على مدى نصف قرنٍ من الزمن، عملت الولايات المتحدة مع مجموعة من القوى الإقليمية إسرائيل، والمملكة العربية السعودية ومصر على وجه الخصوص لحماية نظام إقليمي مستقر. ولكن منذ سقوط مبارك، تشهد سياسة واشنطن صعوداً وهبوطاً متكرراً. ويبقى العنصر الثابت الوحيد في نهج واشنطن هو الالتزام الدائم مع مصر والعمل مع أي جهة تكون في السلطة. ثمّة سبب بسيط وراء ذلك: تمتلك الولايات المتحدة مصالح قوية في مصر، بغض النظر عن الجهة التي تمسك بزمام السلطة. حتى وإن توقفت الولايات المتحدة عن استيراد النفط من الدول العربية، إلا أنّ قناة السويس المصرية تبقى بالنسبة إليها ممراً حيوياً. إن الشراكة الأمنية الأمريكية المصرية أساسية لمواجهة المتطرفين العنيفين ولاحتواء إيران. إنّ التعاون المصري الإسرائيلي غاية في الأهمية من أجل محاربة الإرهابيين على طول حدود سيناء ومن قطاع غزة. ويُعد السلام بين مصر وإسرائيل حجر أساس للأمن الإقليمي والإسرائيلي من دون شك.

إلا أن الوصفات القديمة لإرساء الاستقرار الإقليمي لن تجدي نفعاً مع الجيل الجديد. فالفئة الشابة الصاعدة هي التي أشعلت الثورة المصرية، على غرار الثورات العربية الأخرى، ودعمتها الثقافة والتكنولوجيا، ولكن قيدها الفساد، واللامساواة، والقادة الذين لم يصغوا. تقل أعمار نحو ثلثي المصريين عن الثلاثين عاماً. وقد تعلموا في المدارس أن مصر كانت دولةً رائدة بعد الاستعمار إلى جانب إندونيسيا والهند، إلا أنهم رأوا بعد ذلك كيف ازدهر الشباب الإندونيسي والهندي في عالم من الأسواق والمجتمعات المفتوحة، في حين أن مصر بقيت في الخلف. في العام 2011، انتفض الشباب المصري وحاول اللحاق بركاب العالم في ما أطلق عليه زميلي روبرت كاغان “العالم الذي صنعته أمريكا”.

منذ ذلك الحين، أطاح المصريون بثلاثة قيادات متتالية في محاولة لتحقيق التغيير الذي يسعون إليه. حاولت كلّ قيادة فرض نظام سياسي على مصر من شأنه منح الامتياز لحلفائها واحتواء أعدائها أو استبعادهم. إلا أن كل هذه القيادات باءت بالفشل. استقال الديكتاتور مبارك بعد حكمٍ دام ثلاثين عاماً حين رفض جيشه إخماد الاحتجاجات الواسعة عن طريق استعمال القوة الوحشية. اضطر خليفة مبارك، المشير محمد حسين طنطاوي، من خلال الضغط الشعبي احترام نتائج الانتخابات الرئاسية الحرة التي أدت إلى انتخاب أسوأ كابوس للجيش أي إلى انتخاب رئيس من جماعة الإخوان المسلمين التي مُنعت لفترة طويلة من المشاركة في الحياة السياسية. أعلن ذلك الرئيس الإخواني، محمد مرسي، أن أفعاله تعلو فوق أي مراجعة قضائية وأقرّ دستوراً انحصرت مهمة كتابته تقريباً على الإسلاميين. واجه مظاهرات حاشدة وغاضبة خلال الصيف الماضي وأُطيح به على أثر انقلابٍ عسكري في الثالث من يوليو.

وأضحت الحملة منذ ذلك الحين وحشية. ومع مقتل أكثر من 2,000 شخص وسجن أكثر من ,20 آخرين، يحكم المشير عبد الفتاح السيسى حالياً مصر أكثر قمعاً مما كانت عليه خلال عهد مبارك. ومع ذلك، فإنّ العديد من المصريين ممن أيدوا الثورة في العام 2011 يدعمون حالياً السيسى في ترشحه للرئاسة، على أمل أن يتمكن من إرساء الأمن والاستقرار بعد ثلاث سنوات من الفوضى.

تريد الولايات المتحدة أيضاً الاستقرار المصري، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيفية تحقيق ذلك؟ يعتبر السيسي وحلفاؤه أنفسهم ضمن معركة وجودية مع الإخوان المسلمين من أجل السيطرة على البلاد؛ يطلبون دعم الولايات المتحدة للقيام بحملة تتضمن قانوناً صارماً لمكافحة الاحتجاج واعتقال الصحفيين والمعارضين السياسيين السلميين. تستحق الحكومة المصرية الدعم في ما يتعلق بمكافحة العنف الإرهابي، ولكن لا بدّ من أن تتعلم دروساً من إخفاقات مبارك، وطنطاوي، ومرسي مفادها أن المصريين لن يقبلوا بعد الآن أن يُحكموا بالقمع من قبل رجل واحد أو حركة واحدة.

يرى العديد من المحللين الإسرائيليين ممن تحدثت إليهم أن السيسي يمكن أن يفرض السيطرة على مصر في حال حصل على فرصته – إلا أن هذا ما قالوه أيضاً عن مبارك. ومن أجل تهميش المتطرفين وتأمين الاستقرار في البلاد، يجب على قادة مصر الحاليين السماح بقدرٍ أكبر من الحرية وايجاد وسيلة لجذب المزيد المصريين إسلاميين وعلمانيين ومسيحيين؛ نشطاء ورجال أعمال من الشباب؛ عمال غزل ومزارعين إلى المؤسسات الحاكمة الجديدة.

إن تركيز حكومة أوباما على تأمين الاستقرار أمرٌ مفهومٌ، وهو كذلك بالنسبة لإسرائيل؛ فكلاهما يحتاج إلى حكومة في مصر من شأنها أن تكون شريكاً فعالاً لإرساء الاستقرار الإقليمي. ولكن وحده نظام مفتوح وتعددي من شأنه أن يجمع المصريين ويدفعهم لاتخاذ قرارات كبيرة تحتاج إليها البلاد ولإصلاح سياساتهم واقتصادهم. قد لا يحبّ شباب مصر الولايات المتحدة أو إسرائيل، إلا أنهم يريدون أن يكون وطنهم جزءاً من العالم الكبير الذي تجسده هاتان الدولتان. تتجلى مهمة واشنطن في المحافظة على توافقها مع هذه الرؤية لمصر رؤية ستدفع بالاستقرار والأمن والمصالح الأمريكية إلى الأمام.