Commentary

Op-ed

آفاق غير معهودة: العدالة الانتقالية في سوريا

A man wearing a mask of Syrian President Bashar al-Assad demonstrates against Assad in front of the International Criminal Court (ICC) offices in The Hague June 7, 2011. REUTERS/Michael Kooren  (NETHERLANDS - Tags: POLITICS CIVIL UNREST IMAGES OF THE DAY)

لقد شهد العالم إنشاء أكثر من 40 لجنةَ تقصّي حقائق منذ العام 1983. واتّسمت عمليّات العدالة الانتقالية بميزتَين مشتركتَين طاغيتَين. الأولى هي التقصير: فهي لم تنجح دائماً في منْح الضحايا العدالةَ أو محاكمةِ المجرمين أو تأسيسِ سلام مدني مستدام. والميزة الثانية هي أنّ الكثير من هذه اللجان أُنشِئ إمّا بموجب قرار دولي أو قرار وتدخّل من دول أخرى. علاوة على ذلك، بدأ معظم هذه التجارب بعد أن انتهت أزمات البلدان المعنية، مما أعطى الوقت اللازم لتدمير الأدلّة وفرار المجرمين. بهذه الطريقة، أصبحت عمليات العدالة الانتقالية محدودة أكثر وأقلّ تأثيراً.

لكن في حالة سوريا، تمّت عرقلة المسارات التقليدية نحو العدالة، على غرار اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء محكمة. وتمّت أيضاً عرقلة إمكانية التوصّل إلى إجماع سياسي حول مسألة المساءلة، ممّا لم يفسح في المجال أمام بروز حلّ سياسي للحرص على نيل الضحايا العدالةَ. ودفع هذا الأمر بالضحايا وممثّليهم إلى اللجوء إلى الولاية القضائية العالمية في عدّة دول أوروبية (ولا سيّما ألمانيا) بغية المباشرة بعمليات العدالة. ونادراً ما أوصل هذا المسار إلى نتائج ملحوظة في السابق.

لقد شاركتُ في ورشة العمل التي أقامها مركز بروكنجز الدوحة حول الإبداع في العدالة الانتقالية في مارس 2020. وكانت الورشة فرصةً لتفسير ما تمّ تحقيقه بشأن العدالة في سوريا ولتشاطر هذه التجربة مع المنظّمات المعنية بالعدالة الانتقالية ولتبادل الخبرات حول المحاكمات وقنوات العدالة الانتقالية الأخرى، ولا سيّما تخليد الذكرى والتطوير القانوني وبناء السلام. ولما كان من الممكن تحقيق ما تحقّق حتّى الآن من خلال المحاكمات وتخليد الذكرى (بما في ذلك المستندات والمعارض والأفلام والصور) لولا الشتات السوري وجهوده. والأبطال الحقيقيّون هم الضحايا، الذين ما زال بعضهم يعيش في مناطق خاضعة لسيطرة النظام والذين قدّموا شهاداتهم على الرغم من ألمهم الشخصي ومخاوفهم على سلامتهم وسلامة عائلاتهم واحتمال التعرّض لأذى شخصي ومجتمعي.

ما الذي حقّقته عملية العدالة الانتقالية في سوريا؟

حتّى الآن، حقّقت عملية العدالة الانتقالية في سوريا عدداً من الانتصارات، ومنها أربعُ دعاوى مُقدّمة في ألمانيا وواحدة في النمسا وواحدة في النرويج استهدفت 60 مسؤولاً رفيع المستوى في الجيش والأجهزة الأمنية، من بينهم الرئيس السوري بشّار الأسد. واتُّهم هؤلاء المسؤولون بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، بما في ذلك الاعتقال التعسفيّ والإخفاء القسريّ والتعذيب والقتل تحت التعذيب وإخفاء الجثث في مقابرَ جماعيّةٍ مجهولةٍ بشكل مُمنهج وواسع النطاق.

وتمّ تقديم دعوى أيضاً أمام المدعي العام في فرنسا بحقّ المسؤولين عن التعذيب في إدارة الأمن الجوي السورية بسبب قتل مواطنَين يحملان الجنسيتين السورية والفرنسية تحت التعذيب في المعتقل. وبموجب الولاية القضائية العالمية التي تتحلّى بها قوانين هاتَين الدولتين تمّ إصدار مذكّرات توقيف، على الرغم من أنّ المشتبه بهم لا يزالون في سوريا ولم يغادروها. وأُفيد بأنّ مذكّرات التوقيف هذه أصدِرت بحقّ علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطنيّ، وجميل حسن، رئيس إدارة المخابرات الجوّية، وعبد السلام محمود، رئيس فرع التحقيق في إدارة المخابرات الجوّية.

وفي ألمانيا تمّ اعتقال ضابطَين من الأجهزة الأمنية: أنور رسلان وإياد الغريب. وكان الأوّل عقيداً مسؤولًا عن قسم التحقيق في أهمّ فرع أمن دولة في سوريا (الفرع 251 أو ما يعرف بفرع الخطيب)، وكان الثاني ضابطاً في الفرع نفسه. وابتدأت محكمةٌ علنيّةٌ تاريخية لمحاكمة الضابطَين في مدينة كوبلنز الألمانية في 23 أبريل 2020. وفي ألمانيا أيضاً، تمّ اعتقالُ طبيبٍ كان يمارس التعذيب على المعتقَلين في مستشفى حمص العسكري.

وتمّ فتح أكثر من 80 تحقيقاً سارياً بحقّ أولئك الذين يُشتبه بأنّهم ينتمون إلى منظّمات مسلّحة أو إرهابية في سوريا. ومع أنّ معظم هذه التحقيقات يجري في ألمانيا، يجري عدد كبير أيضاً في السويد وهولندا وفرنسا. وتجري تحقيقات أخرى في ألمانيا وفرنسا والسويد وهولندا والنمسا وسويسرا والنرويج بحقّ أشخاص متّهمين بجرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانيّة ينتمون إلى النظام السوريّ ويعيشون في أوروبا كلاجئين أو مقيمين. وطالت الاعتقالات التي لا تزال جارية مثل هذه الشخصيات من بينها إسلام علّوش، الناطق الرسمي باسم جيش الإسلام في غوطة دمشق (أوقف في فرنسا). وفي ألمانيا وحدها، أقيمت أكثر من 25 دعوى مفتوحة بحقّ مُنتمين إلى منظّمات مصنّفةٍ إرهابيّة كداعش وجبهة النصرة، إلى جانب منظّمات مسلّحة أخرى، بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وقد صدرت أحكامٌ بالسجن المؤبّد بحقّ عددٍ منهم.

السمات التي تميّز الحالة السورية

حقّقت تجربة العدالة الانتقاليّة في سوريا نقلةً نوعيّةً في تاريخ العدالة الانتقاليّة العالميّ وفي طريقة تحقيقها. ومن أبرز مزايا العدالة الانتقالية في سوريا أنّ إجراءات العدالة الانتقالية بدأت في خضمّ الأزمة لا بعد انتهائها. فما زالت الجرائم مستمرّةً والأدلّة متوفّرة بكثرةٍ، بفضل حركة توثيق مذهلة. ولهذا الأمر أهمّية، لأنّه على مرّ التاريخ، تعرّضت عمليّات العدالة الانتقالية للتأخير واختفت الأدلّة أو أُخفيت أو أُتلفت ومات الضحايا والشهود أو انتقلوا للعيش في مكان آخر، مما يجعل الحصول على ذكرى مفصّلة بالكامل مستحيلاً. علاوة على ذلك، الفترة الزمنية الطويلة التي تستلزمها هذه العمليات تُجرِّد تطبيقَ العدالة من جدواه ومنفعته للضحايا وغيرهم. وأحياناً كان المجرمون بحدّ ذاتهم جزءاً من آليات العدالة الانتقالية. ويُبرِز هذا عند حصوله الاستهزاء والاستخفاف الكبيرَين بقيمة العدالة.

ومن المزايا البارزة الأخرى في القضية السورية أنّ عملية العدالة الانتقاليّة أُطلقت بإرادة الضحايا أنفسهم وبقرار منهم. ويجعل هذا القضية السورية مختلفة عن الكثير من القضايا الأخرى التي بدأت بقرار دولي أو بقرار اتّخذته دول نتيجة فوز أو تسوية أو اتّفاق. لهذا السبب تأثير السياسة على عمليات العدالة الانتقالية وعلى وجهتها محدودٌ، إن لم يكن معدوماً. في الواقع، ستجري عمليات العدالة على الأرجح بدون رضا السياسيين وبعكس مشيئتهم. في السابق، حدّدت إرادة الدول مسارات العدالة الانتقالية ونتائجها وحدودها، بينما يتخطّى ما تمّ تحقيقه في الوضع السوري أي حدود أو قيود تفرضها الدولة.

في سوريا، العدالة نفسها هي التي ترسم الحدود وتفرض نفسها على السياسة والسياسيّين وتطرح الحلول المتوقّعة للأزمة. ويشمل ذلك الحؤول دون أن يصبح المجرمون جزءاً من أيّ عملية سياسية أو من المستقبل. بعبارة أخرى، مَن كان جزءاً من المشكلة لن يكون جزءاً من الحلّ. ويتعارض ذلك مع تجارب العدالة الانتقالية السابقة التي حدّد فيها السياسيّون، وفي بعض الأحيان المجرمون أنفسهم، حدود العدالة ودورها ومسيرتها. وشملت العملية حتّى الآن إصدار الإنتربول مذكّرات توقيف دوليّة بحقّ مجرمين لا يزالون يجرون مهامهم في مناصب رفيعة المستوى في هيكلية السلطة العسكريّة والأمنيّة السورية. وشملت العملية أيضاً محاكمة علنيّة لشخصيات مرموقة متّهمة بجرائم ضدّ الإنسانيّة، وتجري المحاكمة ليس بصفتهم أفراداً مُدّعى عليهم فحسب بل كجزءٍ من منظومة إجرامية تتستّر تحت ستار دولة ونظام ومسؤولين شرعيّين.

إنّ مسار العدالة الانتقاليّة مسارٌ طويلٌ ومعقّدٌ وله عدّة قنواتٍ. ومن المؤكّد أنّ السير بإحدى هذه القنوات لا يضمن تحقيق الإنجازات على صعيد القنوات الأخرى. مثلاً، لا يمكن أن تكون محاكمة المجرمين بديلاً عن التعويض وإعادة الاعتبار للضحايا، ولا بديلاً عن إعادة هيكلة القوانين بما يضمن عدم تكرار ارتكاب مثل هذه الجرائم مرّة أخرى. لكنّ الأكيد أنّه لا يمكن الحديث عن عدالة انتقاليّة قبل محاسبة المجرمين ومعاقبتهم. فلا يمكن اعتبار التعويض وتخليد الذكرى والحؤول دون تكرار هذه الحوادث فحسب شكلاً من أشكال العدالة الانتقاليّة إذا كان المجرمون أنفسهم لا يزالون أحراراً ويمكن أن يكونوا جزءاً من المستقبل. فذلك أشبه بمَن يُبقي الجمر تحت الرماد أو بمَن يزرع ألغاماً ستنفجر في المستقبل وستكون معها الكلفة أكبر بكثير.