Commentary

Op-ed

هل تلوح جبهة النصرة “الحقيقية” في الأفق؟

في السنتين الأخيرتين، اعتمدت جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، لاعتبارات وغايات مختلفة، استراتيجية برغماتية مفاجئة في سوريا، تركز من خلالها على الحفاظ على علاقات تعاونية، على الأقل ضمنياً، مع جهات المعارضة الفاعلة بكافة انتماءاتهم.

ففي الأشهر الستة الأولى من العمليات العلنية لها (يناير- يوليو 2012)، تصرّفت جبهة النصرة كأنها منظمة إرهابية معهودة، قتلت خلالها عشرات المدنيين في تفجيرات في المناطق المأهولة والغارات على أهداف مدنية تابعة للحكومة في دمشق. بيد أن هذه التكتيكات أبعدت جبهة النصرة عن المعارضة المسلحة الموسعة في سوريا. في مطلع أغسطس 2012، بدأت الجبهة بالتغيّر. فقد باشرت أولاً بلعب أدوار بارزة على خطوط التماس في عمليات أشبه بالعمليات المتمردة والهجمات العسكرية بتنسيق وثيق مع جماعات وطنية من الجيش السوري الحر ومجموعات من مختلف الانتماءات الأيديولوجية من الصوفيين، مروراً بالإسلاميين السُنة المعتدلين، وصولاً إلى السلفيين وما شابههم من الجهاديين.

والجدير بالذكر هنا، هو أن هذا التحول الاستراتيجي والرمزي كان له تأثير شبه ممتاز. وبعد أربعة أشهر، في ديسمبر 2012، صنفت وزارة الخارجية الأمريكية جبهة النصرة كمنظمة تابعة لتنظيم القاعدة في العراق ، وبالتالي كمنظمة إرهابية. ويوم الجمعة التالي، عوضًا عن الابتهاج بهذا التصنيف، تجمع المدنيون الداعمون للمعارضة في سوريا كلها احتجاجًا تحت شعار واحد “كلنا جبهة النصرة”.

فيما بعد، ساعد تبدد نفوذ جماعات الجيش السوري الحر وتنامي قوة وسيطرة الإسلاميين والسلفيين خلال العام 2013 بتعزيز شعبية جبهة النصرة ونفوذها، وقدم لها دورها الريادي في العمليات الناجحة وتجنبها شبه الكامل لأعمال العنف مع المعتدلين، فرصة لا مثيل لها من قبل بين كافة أتباع تنظيم القاعدة.

لكن في الأشهر القليلة الأخيرة تغيرت الأمور بشكل بارز.

فيبدو اليوم أن جبهة النصرة لم تعد تُمثل منظمة واحدة محددة. فوجودها الموسع في مناطق مختلفة من سوريا يؤدي أكثر فأكثر إلى ظهور أوجه مختلفة لها من دون أي إشارة إلى استراتيجية ذات تصميم أو تنفيذ مركزيين. من جهة أخرى، تشكل الانتصارات الكاسحة للدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في العراق وإعلانها الخلافة الإسلامية وهجومها السريع على القواعد العسكرية النظامية في الحسكة والرقة وحلب، تحدياً يكاد يكون وجوديّاً لجبهة النصرة. لكن من السذاجة أن يظنّ المرء أن جبهة النصرة ستختفي، بل على العكس، تتطور التنظيم بسرعة، ويبدو أن مساره يؤشر إلى تقدمٍ نحو صورة تنظيم القاعدة المعهودة.

وعلى الرغم من الظهور البارز لفصائل جبهة النصرة المختلفة في سوريا، هناك عامل واحد يظهر دائماً، وهو أن التنظيم يبدو أكثر اهتماماً بمصلحته الذاتية ويسعى لإثبات نفسه أكثر. وظهر ذلك بشكل خاص في منطقتين في البلاد؛ على طول الحدود الأردنية والتركية. ولا يبدو ذلك محض صدفة.

منذ مطلع العام 2014، بدأت جبهة النصرة بفرض نفوذها بثقة أكبر في محافظة درعا على الحدود الأردنية. وهناك، استغلت الجبهة حالات الاستياء والامتعاض المتزايدة بين المتمردين المعتدلين حيال ما اعتبروه مستوى غير كافٍ من المساندة التي تقدمها غرفة العمليات ذات القيادة الأمريكية والواقعة في العاصمة الأردنية عمان. وقد عززت عمليات الانشقاق من مجموعات أخرى للانضمام إلى جبهة النصرة في درعا والقنيطرة المجاورتين، وإن كانت صغيرة ، بتعزيز ثقة التنظيم إلى حد كبير، حتى أنها في بعض الأحيان هاجمت الوحدات ذات التوجه المعتدل وكذلك أفراداً معتدلين اعتبرتهم معارضين لوجودها.

إلا أن جبهة النصرة لا تواجه المعتدلين أو خصومها الظاهرين ضمن جماعات المعارضة مباشرةً، بل تعمل ببساطة على الحد من نفوذهم في المجتمع وديناميكيات النزاع. وبدا تشكيل ما عُرف بالجبهة الجنوبية في 13 فبراير 2014، كائتلاف غير رسمي للمجموعات ذات الأيديولوجية المشابهة للجيش السوري الحر، خطوة إيجابية لكنها أخفقت بأن تكون أكثر من مجرد نداء للداعمين الخارجيين لتوفير التمويل والتجهيزات. وبذلك، حصل عدد محصور من أعضاء الجبهة على المزيد من الدعم مذّاك، إلا أنه لم يكن كافياً إلى حدٍ كبير لتغيير مسار المعركة مع الحكومة أو للحد من قوة جبهة النصرة المتصاعدة بشكل مطّرد.

تبدو مكانة جبهة النصرة في جنوبي سوريا، التي تتميز بتوسّعها وثقتها بذاتها، وكأنها أتت في فترة انتقل فيها التركيز الجدي للغرب على دعم العناصر المعتدلة من المعارضة المسلحة في الشمال، ولا يُعرف إن كان ذلك محض صدفة أم لسببٍ ما.

ويعيدنا ذلك إلى المجال الثاني من التحول البارز لجبهة النصرة الذي يجب أن يشكل في السياق الحالي مخاوف جدية للمجتمع الدولي. فلطالما كان دور جبهة النصرة في شمالي غربي محافظة إدلب على الحدود التركية مهمّاً ومترسخاً بين المجتمعات المحلية. لكن في الأسابيع الأخيرة تنامت الجبهة لتصبح أكثر سيطرة و جراءة. وفي الأيام العشرة الأخيرة من يوليو، على سبيل المثال، بدأ مقاتلو الجبهة وبشكل أحادي بفرض السيطرة على خمسة بلدات (بنش وحارم وسرمدا ودركوش وسلقين) في شمالي إدلب، وكلها تقع على الحدود مع تركيا. كما أن جبهة النصرة خاضت معارك عسكريةً وهزمت عدداً من الفصائل المحلية التابعة لأحد أبرز متلقي المساعدات العسكرية الغربية، وهي جبهة ثوار سوريا.

وتجدر الإشارة إلى أن فرض هذه السيطرة وأيضاً زيادة تطبيق الشريعة هما من دون شك ردة فعل على التوسع الواضح والمتزايد في مستوى المساعدات العسكرية الفتاكة والمتطورة نسبيّاً والموفّرة للثوار المعتدلين من قبل مركز العمليات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة والذي يقع على حدود إدلب في هاتاي. ومع أن هذه المساعدات ليست بالأمر الجديد، حيث أنها بدأت في أواخر العام 2013، إلا أن كونها استمرت لا بل توسعت خلال تسعة أشهر هو عامل مثير للقلق بالنسبة للجماعة التابعة لتنظيم القاعدة.

بالنهاية يبدو أن حلفاءها السابقين في الجبهة الإسلامية يعانون من نقص في التمويل وانشقاقات داخلية مدمرة معظمها ناتجة عن الضغط الخارجي للحد من التعاون مع منظمات إرهابية محظورة كجبهة النصرة. ومع أن الهدف الواضح من المساعدات العسكرية التي يقدمها مركز العمليات العسكرية، هو تعزيز الجبهات القتالية مع الحكومة وليس محاربة الجهاديين، إلا إن هذه المساعدات نفسها سهلت النمو البارز إلى حدٍ ما لنفوذ الجماعات المتمردة المعتدلة. وتزداد مخاوف جبهة النصرة بشكل خاص بفعل أن الجهتين المتلقيتين لهذه المساعدات الفتاكة، أي جبهة ثوار سوريا وحركة حزم، مقرهما في إدلب.

إن ديناميكيات النزاع على المستوى الكلي أو الجزئي في سوريا غير ثابتة ومتغيرة بشكل مستمر. لكن حتى وقت ليس ببعيد، كان من الممكن التكهن بدور جبهة النصرة. فزيادة قوة الدولة الإسلامية بشكل بارز وإعلانها الخلافة الإسلامية شكلتا تحدياً لا يُستهان به للنصرة، ولم يكن أقلها قدرتها على المنافسة في إثبات نيتها وقدرتها على الوصول لدرجة مماثلة من السيطرة الميدانية والحكم على المستوى الاجتماعي. ويُقال أو وجوده جبهة النصرة في القلمون، والتي أجبر العديد من وحداتها هناك إلى القتال في شرقي لبنان في أواخر شهر أبريل الماضي، والذي قرّبها جدّاً من الدولة الإسلامية كما ظهر جليّاً في أحداث عرسال مؤخراً.

في الوقت نفسه، لقد أولي اهتمام كبير للتهديد الذي تشكله الدولة الإسلامية للقيادة المركزية للقاعدة ولقدرة التنظيم على تمثيل حصناً للجهاد العابر للحدود. ومنذ ظهور داعش على الساحة السورية في أبريل-مايو 2013، سعت القيادة المركزية للقاعدة إلى تعزيز شرعية جبهة النصرة بما في ذلك نشر عدد من قدامى المقاتلين البارزين والقادة ذوي الخبرة في شمالي البلاد. ومع أن ذلك لا يزال غير واضح، إلا أن الجبهة والقيادة المركزية لتنظيم القاعدة تمكنتا من تأسيس قاعدة جديدة لهذه الشخصيات ذات الخبرة الطويلة، حيث أن جميعهم لديه تاريخ حافل في التنظيم الذي ركز على زعزعة استقرار الخصم القريب، والأهم من ذلك على تشكيل تهديد فعلي لأمن العدو البعيد ومصالحه.

ويشكل التعزيز العلني للمتمردين المعتدلين من قبل الغرب شريطة قطع أي علاقة بالجماعات الجهادية تهديدًا واضحاً لجبهة النصرة واستمرارها الطويل الأمد في سوريا. كما أن صعود الدولة الإسلامية وقدرتها العالية على ضم أفراد من مختلف أنحاء العالم وعلى فرض سلطتها في ما يعرف “بشبه دولة” إذا جاز التعبير، يجعلان وجود الجبهة نفسه محل شك.

ولم تواجه جبهة النصرة ظروفاً صعبة كهذه منذ مطلع العام 2012. ويبدو من المرجح الآن أننا نشهد تحولاً للنصرة نفسها وصورتها العلنية. وإذا صحّ ذلك، فإن الديناميكيات الأساسية للنزاع السوري ستشهد تغيراً بارزاً آخر. ويبدو أن تركيز المجموعة على ضمان سيطرتها على البلديات الرئيسية في إدلب على طول الحدود التركية يشير إلى محاولة لعزل المتمردين عن خط تزويد مركز العمليات العسكرية عبر معبر باب الهوى والاستفادة وربما أيضاً الاستفادة من فترة الانقسام داخل الجبهة الإسلامية.

فإذا حصل ذلك سيكون من المفاجئ جدّاً إذا أخفقت جبهة جديدة بالتدخل في الصراع السوري بين المتمردين وجبهة النصرة. إذا لم تكن الأمور معقدة بما فيه الكفاية اليوم مع ثماني جبهات مفتوحة اليوم في البلاد: 1) المعارضة والنظام، 2) المعارضة والدولة الإسلامية، 3) المعارضة وحزب الله، 4) الدولة الإسلامية والنظام، 5) الدولة الإسلامية والأكراد، 6) جبهة النصرة والدولة الإسلامية، 7) جبهة النصرة والنظام، 8) العشائر الشرقية والدولة الإسلامية، فلا بد لإضافة جبهة تاسعة بين جبهة النصرة والمعارضة أن تجعل إيجاد حل للصراع تحدياً شبه مستحيل.

لكن لسوء الحظ، يبدو أنه ليس هناك من مفرّ من ذلك إن لم يكن قد بدأ.