Commentary

Op-ed

لماذا تبدو السياسة السورية الراهنة غير منطقية؟

تعرّض القرار الذي اتخذه الرئيس أوباما، بعد تردد لمدة تقارب السنتين، بتسليح الثوار السوريين لبعض الانتقادات الجافة. وقد وصف مارك لينش، الذي لطالما عارض التدخل العسكري في سوريا، القرار هذا قائلاً: “قد يكون أسوأ قرار يتخذه أوباما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية منذ توليه منصبه”، في حين صرّح دانيال لاريسون قائلاً: “لا شكّ أنه أحد أسوء قرارين أو ثلاثة قرارات يتخذها أوباما”. رغم أن رأيي يخالف ما أتى به السادة – إذ بدأت الكتابة لصالح التدخل العسكري منذ ما يقارب العام والنصف – إلا أنه من الصعب أن نختلف مع تقييمهم القائل أن تقديم “الأسلحة الخفيفة” للثوار لن يجدي نفعاً او يُحدث فرقاً كبيراً.

إن ما يجعل من قرار أوباما قراراً غير كاف – وحتى قراراً مزعجاً – برأي الجانبين هو أنه يعترف بنفسه بالأمر. فقد أشارت تقرير في جريدة النيويورك تايمز: “لم يُظهر أوباما أي ثقة بقدرة قراره على تغيير النتائج، إلا أنه عبّر عن أمله بتوفير بعض الوقت لإقامة مفاوضات من شأنها أن تؤدي إلى تسوية.

على غرار القرار المندفع الذي تمّ اتخاذه في العام 2010 بشأن أفغانستان، لا تبدو هذه الخطوة التكتيكية قائمة على استراتيجية واضحة وطويلة الأمد. من السخرية أن الحوار بين المحللين حيال سياسة أوباما تجاه سوريا هو كثيراً ما يدور حول ماهية سياسة أوباما الأساسية في المقام الأول. كان وزير الخارجية جون كيري يروّج لمؤتمر جنيف الثاني للسلام، إلا أن تفسيره للأهداف الأمريكية أثارت بعض الحيرة. فعلى سبيل المثال يمكنني الإشارة إلى قوله التالي: “يرمي مؤتمر جنيف الثاني إلى تطبيق مؤتمؤ جنيف الأول”. إلا أن أحداً لم يتمكن من فهم أهداف مؤتمر جنيف الأول بشكلٍ أكيد باستثناء أنه يمهد الطريق أمام مؤتمر جنيف الثاني.

في حال كان الهدف مساعدة الثوار على استعادة السيطرة العسكرية، وثانياً تقويض قدرة النظام على القتل، فإن الوسائل المقترحة تبدو عاجزةً. في الحقيقة، يتفق الجميع على عدم فعالية المسار هذا، بمن فيهم الرئيس أوباما نفسه، مما يشير إلى أن الرئيس اتخذ قراراً مماثلاً لأنه يحتاج إلى “القيام بشيء ما”. في الواقع، باتت الأمور في النهاية محرجة مع تعرض أوباما للسخرية نتيجة موقفه المستهتر من الأحداث السورية، عموماً، ووضعه خطاً أحمر متعرج يؤكد على التحول إلى اتجاهات غريبة خصوصاً. إلا أن قيام أوباما بشيءٍ لم يكن يرغب بالقيام به لأسباب خاطئة لا يوحي إطلاقاً بالثقة. وينبغي هنا الإشارة إلى أنه نادراً ما كانت السياسات الكبرى تخضع لتغيير حذرٍ جداّ من دون أن يكون التغيير هذا مصحوباً بقناعة كبيرة.

يشير الواقع، في ظل عزم الإدارة على الحذف، إلى أن الطريقة الوحيدة لمساعدة الثوارعلى استعادة السيطرة وإجبار نظام الأسد على تقديم تنازلات حقيقية تكمن في تهديد حقيقي بالتدخل العسكري من خلال ضربات جوية ضد مواقع النظام وفرض حظر جوي وبري على بعض المناطق. وهذا يعني اتخاذ خطوات إضافية وتعميق المشاركة ببطء، وهي النتيجة التي يخشى البعض الآن أنها باتت أمراً لا مفر منه. مما لا شكّ فيه أن الحجة الأخرى – التي عبّر عنها لاريسون ببلاغة خلال العام الماضي – هي أن الخطر لا يحيط بأي مصالح حيوية وأن الولايات المتحدة ستكون أفضل في حال بقيت بمنأى عن الأزمة السورية. تتسم هذه الحجة الأخيرة، رغم تعريف مصالح الولايات المتحدة بعبارات ضيقة للغاية، على الأقل ببعض الثبات الداخلي.

يرى أولئك الذين دعموا عمليات حلف شمال الاطلسي في ليبيا – التي تكاد تكون نموذجاً للتدخل غير القائم على المصالح – والتدخلات الماضية في البوسنة وكوسوفو، صعوبة أكبر في شرح استمرار الامتناع عن القيام بعمل عسكري مباشر، رغم أن علاقته بما تركته الأحداث في العراق من ميراث لا شكّ فيها. ففي مناسبات عدة، أتت الإدارة على ذكر العراق كمصدر تستقي منه دروساً للحاضر، رغم أنه لم يُصار أبداً إلى تفصيل السبب الذي يجعل من أحداث سوريا مشابهة جداً لتلك التي شهدها العراق، بدلاً من تشبيهها بما حصل في ليبيا أو البوسنة (تتشارك سوريا مع العراق ببعض المظاهر الطائفية، ولكن، على حدّ علمي، لم يكن هذا هو السبب الذي دفع عدداً كبيراً من الأشخاص إلى الاعتقاد بعدم شرعية وضرورة هذه الحرب وبقيامها على ادعاءات كاذبة). وقد أدى الدعم الذي تلقته الحرب العراق والذي أتى في غير محلّه إلى تصحيح مفرط في الاتجاه المعاكس.

فعلى سبيل المثال، كتب أندرو سوليفان: “في رأيي تكمن المكونات الرئيسة لنجاح رئاسة أوباما – وهو التغيير الفعلي الذي قد نؤمن به – في القدرة على مقاومة الحرب في سوريا أو مع إيران تحت أي ظرفٍ من الظروف”. فما الغاية من التدخل مجدداً في منطقة تعمّ فيها الفوضى والبلبلة وقد باءت تدخلات سابقة بالفشل؟ لا يخدم موقف سوليفان كثيراً في فهم الوضع في سوريا والتغيرات التي طرأت على الأوضاع، إلا أنه يبقى موقفاً قائماً على النفور الأيديولوجي من التدخل تحت “أي ظرف من الظروف” على حدّ قوله. لم تكمن المشكلة أثناء حرب العراق في التدخل، إنما في التدخل السيء الذي جاء نتيجة قرارات سياسية واعية – عملت نظرة المحافظين الجدد على توجيهها – تماماً كما بدا قرار إدارة أوباما بعدم التدخل في سوريا خياراً واعياً جداً ومتعمداً يستند إلى نفور فلسفي وحتى أيديولوجي من التدخل أو حتى من التورط تورطٍ فاعلٍ في منطقة الشرق الأوسط.

ويأتي السؤال الذي يطرحه مناهضو التدخل في سوريا والذي يستند إلى الاعتراف بموقف سوليفان على الشكل التالي: ما هي الظروف التي، إن وُجدِت، تجيز التدخل العسكري وتبرره. إنه سؤال مهم جداً يلقي الضوء على مستقبل مسؤولية الحماية. في سوريا، قُتِل ما لا يقل عن 93 ألف شخص، وهو عدد لم يحصده أي من الصراعات التي شهدها العالم. بالإضافة إلى المذابح الجماعية التي لا توصف وأعمال الاغتصاب والتعذيب، يمكننا الحديث عن ظرفين رئيسين آخرين. ففي المقام الأول، طالبت المعارضة السورية السياسية والعسكرية بشكلٍ متسق، بالإضافة إلى حركة احتجاج واسعة، بالتدخل الأجنبي المباشر ولا سيما فرض منطقة حظر جوي. وفي المقام الثاني، ثمة شرعية إقليمية ودولية واسعة، في ظلّ دعم تركيا، ومصر، وقطر، والمملكة العربية السعودية وفرنسا بدرجات مختلفة بالعمل العسكري.

في عالم مثالي، تكاد تكون هذه الاعتبارات كافية للتدخل منذ فترة طويلة – ففي النهاية يكمن هدف مسؤولية الحماية في التدخل بالنيابة عن الأحياء، بدلاً من الأموات – إلا أننا لا نعيش في عالم مماثل. ترددتُ دائماً قبل التأكيد على الأساس المنطقي الاستراتيجي للعمل العسكري، وذلك بسبب قلقي من تحوّل واجب حماية الشعب السوري ودعم نضاله ضد النظام الوحشي الحاكم إلى مسألة تصفية حسابات مع إيران أو حزب الله أو أي جهة آخرى. يبدو هذا الجانب التحذيري والحجج الإستراتيجية مقنعة بشكلٍ لم تبدو عليه يوماً أثناء الأحداث التي شهدتها ليبيا (أو كوسوفو). خلافاً لمعظم الأنظمة الاستبدادية العربية، لطالما كانت سوريا عدواً للولايات المتحدة. من هنا يبدو النظام السوري شرياناً حيوياً ونقطة تسمح بالدخول إلى إيران وحزب الله اللذين يبذلان قصارى جهديهما لضمان بقاء الأسد في السلطة. يصعب التفكير في قضية مماثلة طرحت مبررات أخلاقية واستراتيجية للتدخل العسكري قوية بالشكل هذا.

في حال، ورغم الأسباب هذه جميعها، لا يزال الليبراليون الدوليون يرفضون أخذ التدخل بعين الاعتبار، فإن ذلك يثير التساؤلات حول إمكانية تطبيق مبدأ التدخل الإنساني وصلته بمسؤولية الحماية. ويبقى السؤال، إن لم تحفز الظروف الاستثنائية الخطيرة التي تشهدها سوريا – من قتل جماعي وزعزعة الاستقرار في المنطقة بأكملها (بما في ذلك الأردن ولبنان والعراق) – التدخل، ما الذي سيحفزه إذاً؟