Commentary

Op-ed

عشرية القاعدة : هل انتهى التنظيم؟

إن البيئة التي يزاول فيها تنظيم القاعدة أعماله اليوم تختلف تمام الاختلاف عن تلك التي شنّ منها أشهر عملياته – هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول . ففي شهر مايو/أيار الماضي ، نجحت قوات خاصة تابعة للبحرية الأميركية في قتل أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة وزعيمه الكاريزمي بعد توغلها داخل باكستان. وفي هذا العام أزيلت ثلاثة رؤوس لأنظمة دكتاتورية  في الشرق الأوسط ـ اثنان منهما أزيلا عبر تكتيكات المقاومة المدنية الغير مسلحة في مصر و تونس ، والطاغية الثالث أزيل بواسطة حملة مسلحة استعانت بقوات حلف شمال الأطلسي لتخلص ليبيا منه . كما نجحت الهجمات التي شنتها طائرات بدون طيارين في القضاء على العديد من قادة تنظيم القاعدة المخضرمين ، بما في ذلك عطية عبد الرحمن مؤخرا.

ولكن هل فشلت الحركة الجهادية المسلحة فأصبحت نهاية تنظيم القاعدة مسألة وقت؟

فلنعد للخلف قليلا و نتذكر أن الفكر الجهادي يشكل إيديولوجية ثورية حديثة ترى أن العمل المسلح ضد المخالف سياسيا أو دينيا أو فكريا وسيلة مشروعة فقهياً وفعالة تكتيكياً لإحداث تغيير اجتماعي – سياسي مطلوب. ولقد هيمنت تكتيكات “الإرهاب” و “حرب المدن” و “حرب الأنصار” على الأنشطة المسلحة التي مارستها العديد من الجماعات التي تؤيد هذه النظرة إلى العالم ، بما في ذلك تنظيم القاعدة .

ولكن في حين حافظ تنظيم القاعدة على إيديولوجيته بعد الحادي عشر من سبتمبر، فإن هيكله التنظيمي تغير بشكل كبير. فمن منظمة مركزية هرمية تحول التنظيم إلى بنية غير مركزية إلى حد كبير، وتحولت الفروع الإقليمية إلى كيانات فاعلة مستقلة تقريبا عن التنظيم الأم .

ففي المملكة العربية السعودية نشأ في أواخر عام 2002 تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية ، الذي دبرهجوما عنيفا في الرياض في عام 2003 ثم تلته عمليات أخرى . ثم أعقب ذلك ظهور القاعدة في العراق في عام 2004. وبحلول عام 2007 كان تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي قد ظهر أيضا. وبهذا فرض “نموذج الأفرع ” سيطرته الكاملة. ولكن بعد مرور عشرة أعوام منذ الحادي عشر من سبتمبر، أصبحت هذه الأفرع مقيدة ، وعاجزة عن التوسع.

وبالتوازي مع نموذج “الأفرع”، تبنى تنظيم القاعدة أيضاً نهج “الشبكة العنكبوتية” الذي يتحاشى التنظيمات الكبيرة لصالح أعضاء مدربين يشكلون خلايا صغيرة تقوم بشن هجمات محددة ثم تتفكك سريعا . وتمثل المجموعات التي نفذت الهجمات في مدريد ( 2003 ) ولندن ( 2005) هذا النموذج.

ثم هناك نموذج “الجبهة الإيديولوجية”، الذي ناصره في مستهل الأمر الاستراتيجي الجهادي الشهير أبو مصعب السوري . وينصب التركيز هنا على فرضية مفادها أن الطريقة الأكثر أماناً للتنظيم هي البعد عن فكرة التنظيم . وفي دليله شبه العسكري المؤلف من 1600 صفحة تحت عنوان “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”، يقول أبو مصعب : “إن من شأن هذا النموذج أن يلحق الهزيمة بأي ترتيبات أمنية”.

ويعمل هذا النموذج من خلال نشر رواية تصف ما يعانيه المسلمون من الظلم الشديد والإذلال، ويقدم إيديولوجية تحدد الوسائل الكفيلة بإزالة المظالم، ومن ثَم السماح للمتعاطفين بتجنيد أنفسهم في تنظيم القاعدة (التجنيد الذاتي) أو  تأسيس خلايا صغيرة مستقلة (التأسيس الذاتي) أو البدء في عمليات فردية تتفق مع الفكر و الرؤية و لا تتصل بالتنظيم (يشار الي ذلك أحيانا بنموذج “الذئب الوحيد”). وكان ذلك هو النموذج المتبع في حالة الرائد في جيش الولايات المتحدة نضال حسن، الذي قتل ثلاثة عشر من زملائه الجنود في فورت هود بولاية تكساس في عام 2009، وروشونارا شودري التي طعنت النائب البريطاني ستيفن تيمز في عام 2010.

والواقع أن تنظيم القاعدة لم يتحور هيكلياً فحسب، بل إن فكره الإيديولوجي بات يهاجم بشدة و من جانب جهات غير متوقعة على الإطلاق. ففي أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، سارع العديد من الحركات، والفصائل الإسلامية المسلحة ، والجهاديين البارزين، والأفراد إلى توجيه الانتقادات الشديدة لسلوك تنظيم القاعدة، ثم بدأت هذه الكيانات في التحرك نحو نبذ العنف، الأمر الذي حرم تنظيم القاعدة من عشرات الآلاف من المؤيدين والأنصار. ولقد أدى هذا إلى تحول منظمات كاملة كما هو الحال في مصر وليبيا والجزائر، فضلاً عن عدد كبير من الأفراد في المملكة العربية السعودية واليمن والعراق وأفغانستان وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا، وغير ذلك من البلدان.

ففي مصر، قررت الجماعة الإسلامية، التي تعاونت في اغتيال الرئيس أنور السادات في عام 1981، التخلي عن العنف السياسي ونقض شرعيته. و الجماعة الإسلامية قادت حملة مسلحة في صعيد مصر أثناء الفترة 1992-1997، ثم جمدت التكتيكات العنيفة بداية من عام 1997، ثم عززت هذا التغيير بإطلاق ما يقرب من 25 مجلداً من الحجج العقائدية والعقلانية للترويج لإيديولوجيتهم الجديدة.

وبعد الإطاحة بحسني مبارك من السلطة في مصر في وقت سابق من هذا العام، بادرت الجماعة الإسلامية على عقد انتخابات داخلية، بدلاً من تكديس الأسلحة وإعادة بناء جناحها المسلح. كما طالبت أعضاءها بتعبئة استمارات تسجيل لحزبها الجديد، ونظمت مسيرات ضد العنف الطائفي، وأصدرت بيانات مشتركة مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في أسيوط لدعم التعايش السلمي المشترك، وأسست حزباً سياسياً تحت اسم “البناء والتنمية” لخوض الانتخابات.

أما تنظيم الجهاد المصري فقد بدأ عملية تحول ناجحة جزئيا. صحيح أن العديد من فصائله لا تزال تتمسك بالعمل المسلح . ولكن الكثير من فصائله أيضاً انتقدت تنظيم القاعدة بشدة، وتحاول الآن تشكيل أحزاب سياسية تقليدية في مصر.

وهناك أيضاً الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، الحليفة السابقة لتنظيم القاعدة، والتي تخلت عن فكرها الإيديولوجي بين عامي 2005 و2010، وانضمت إلى الثورةعلى نظام العقيد معمر القذافي الدكتاتوري. ويتولى زعيم الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة عبد الحكيم بلحاج (الملقب بأبي عبد الله الصادق) حالياً قيادة المجلس العسكري في طرابلس، وهو الذي قاد الهجوم على مجمع القذافي في باب العزيزية.

وبعد خروجه منتصرا، دعا بلحاج إلى تعزيز الأمن، وحماية الممتلكات، وإنهاء عمليات الثأر، وبناء ليبيا الجديدة. والواقع أن هذه اللهجة المعتدلة تتفق عموماً مع تصريحات أغلب زعماء الجماعة الإسلامية  المقاتلة طيلة الأشهر الستة الماضية، سواء في شرق ليبيا أو غربها. وفي الإجمال، كان الربيع العربي بمثابة تحديا قويا للفكر الجهادي ونجح إلى حد كبير في تقويض مبرراته وتفنيد حججه (والتي تتلخص في أن القتال المسلح يشكل الأداة الأكثر فعالية وشرعية للتغيير).

والواقع أن التأثير المشترك للعمليات الاستخباراتية، وهجمات الطائرات بدون طيارين، والتحولات التي طرأت بين صفوف الجهاديين، والربيع العربي، كان سبباً في إحباط قوة “تنظيم القاعدة المركزي”. ومن الواضح أن تعدد الأفرع وإعادة ترتيب الإيديولوجية يعني أن بعض أجزاء تنظيم القاعدة ربما ستظل على قيد الحياة بسبب اندماجها بشكل أكثر عمقاً داخل مواقع محلية بعينها. ولكن يمكن القول بأن تنظيم القاعدة المركزي الذي نفذ هجمات الحادي عش من سبتمبر قد تقوض كتهديد عالمي.