Commentary

Op-ed

خطأ الليبراليين في مصر

يثبت التاريخ بعد كلّ ثورة أنّ بعض قادتها سيضحون تدريجياً بمبادئهم الراقية للوصول إلى الأغراض السياسية. إلا أن ثمة ما يخيب الآمال في تراجع من يُسمون بالليبراليين في مصر، والذين أدوا دوراً رئيسياً في ثورة عام 2011 المثيرة التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، عن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها التنوع السياسي والديمقراطية. فبالنهاية، بالكاد يمكن العثور على شيء أقل ديمقراطية من دعم الاستيلاء العسكري على حكومة تمّ انتخابها عن طريق التصويت الحرّ والنزيه، ولو كانت غير فعالة ولا تحظى بالشعبية.

ليس سهلاً أن تكون ليبرالياً في العالم العربي، فيعني هذا أنه محكوم عليك بمواجهة الإحباط عند الذهاب إلى صناديق الاقتراع. في بلدٍ محافظٍ دينياً كمصر، يصعب على الأحزاب الليبرالية – التي غالباً ما تفتقر إلى الشبكات المحلية العميقة والدعم الشعبي – الفوز في انتخابات حرة. ولكن حتى في ظلّ حكم الرئيس محمد مرسي وحلفائه من الإخوان المسلمين والذي كان يزيد قسوة، حظي الليبراليون بفرصة للعمل ضمن النظام لإحداث نوع من التوازن مع مرسي. اختار معظم الليبراليين الامتناع عن مواجهة هذا التحدي ودعموا في يونيو 2012 حلّ البرلمان المصري المنتخب ديمقراطياً. وعندما أطاح الجيش بمرسي في 3 يوليو أيّد الكثير منهم هذه الخطوة أيضاً. في هذا الصدد، قال محمد البرادعي، أحد أبرز رجال السياسة الليبراليين في مصر والذي تولى منصب نائب الرئيس في الحكومة الجديدة التي يدعمها الجيش: “لقد كان قراراً مؤلماً … كان [القرار] خارج الإطار القانوني، إلا أننا لم نملك أي خيار آخر”.

وزعمت المجموعة الليبرالية التي دعمت الإطاحة بمرسي أنه من الضروري في بعض الأحيان وقف عجلة الديمقراطية من أجل حمايتها والحفاظ عليها. إنها قصة قديمة. في الجزائر، وقف الليبراليون صامتين – أو في بعض الحالات صفقوا فعلاً – حين ألغى الجيش انتخابات عام 1992 عندما كان الإسلاميون على وشك الفوز، مما أشعل شرارة حرب أهلية دامية بقيت مستعرة لسنوات طويلة. ولا تزال عجلة الديمقراطية الجزائرية واقفةً حتى يومنا هذا. إلا أن عدداً كبيراً من الليبراليين في العالم العربي يخشون لا بل حتى يكرهون الإسلاميين أكثر مما يرغبون في وضع إيمانهم بالديمقراطية.

في السياق المصري، غالباً ما تستخدم كلمة “ليبرالي” للدلالة على الأشخاص الذين لا يحبون الإسلاميين. يلف الغموض بمعنى كلمة الليبرالية الحقيقي في بلدٍ كمصر حيث يقوم عدد كبير من الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بالليبراليين في بالتمجيد للجيش أو يعتقدون بضرورة منع الأحزاب الإسلامية من خوض غمار الانتخابات في المقام الأول. من ناحية أخرى، لدى الإسلاميون رؤية مميزة – ومشروع يرمي إلى تحويل الفرد والمجتمع وفقاً للشريعة الإسلامية. في الواقع، انقسم الليبراليون والإسلاميون أيديولوجياً في دول الربيع العربي أكثر من أي وقت مضى.

فلننظر مثلاً إلى الوضع الذي يجد حزب النهضة التونسي نفسه فيه، خصوصاً بعد أن هدّد اغتيال شخصيتين سياسيتين يساريتين مؤخراً بعرقلة عملية التحول الديمقراطي. تجنب الحزب الإسلامي العديد من الأخطاء التي وقع فيها نظيره المصري. فقد حكم بالتحالف مع حزبين علمانيين، وسحب كل ما يشير إلى الشريعة الإسلامية من مسودة الدستور، وقام بالقليل مما يمكن اعتباره تطرّفاً. مع ذلك، يتهم الليبراليون في تونس – والذين تحرّكهم العلمانية المتشددة على الطريقة الفرنسية – بشكل دائم أعضاء حزب النهضة بأنهم متطرفون متخفيون ينتظرون اللحظة المناسبة لتنفيذ أجندة متطرفة. كما وأنهم ألقوا اللوم تلقائياً على حزب النهضة بسبب مقتل السياسيين المعارضين مؤخّراً. (وقد اتهمت الحكومة متطرفاً إسلامياً بالاضطلاع بدور رئيس في جريمتي قتل). تؤدي هذه الافتراضات بالمساوئ التي يضعها الليبراليون إلى طريق مسدود: يخشى الليبراليون الإسلاميين، ليس فقط من أجل ما فعلوه، ولكن أيضاً لما يمكن أن يفعلوه في المستقبل.

سمح العديد من الليبراليين المصريين لهذه المخاوف أن تجتاحهم، مما جعلهم يحتضنون الجيش الجائع للسيطرة. ولذلك نتائج عكسية. لقد أثبت النظام الجديد بسرعة أنه أكثر قمعية مما كانت عليه حكومة مرسي في خلال عام واحد في السلطة. أعلنت وزارة الداخلية بإعادة الإدارات التي كانت في عهد مبارك لرصد النشاط السياسي والديني. لقد رأى المصريون ما يحدث عندما يتحدى المحتجون الجيش؛ إذ قتلت قوات الأمن بالرصاص 140 شخصاً على الأقل من أنصار مرسي يومي 8 و 27 يوليو.

عقب الانقلاب، أعلن البرادعي: “لا اعتقد أنه من مصلحة الجيش أن يلعب أي دور سياسي”. يبدو هذا الكلام الآن سخيفاً. لو أراد الليبراليون إعطاء مصطلح الليبرالية أي معنى، الخيار الوحيد أمامهم الآن هو الوقوف علناً ضد الجيش، حتى لو وضعهم خيارهم هذا في المواجهة.