Research

سياسات العدالة الانتقالية في السياقات السلطوية: الحالة المصرية

Pigeons are seen on the wall of the High Court where former Egyptian President Hosni Mubarak's trial will take place, in Cairo, Egypt, November 5, 2015. Egypt's top court on Thursday postponed the final trial of former Egyptian president Mubarak over the killing of protesters during the 2011 uprising that ended his 30-year rule. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh

لقد صارعت العدالة الانتقالية على نحوٍ متزايد لتؤمّن حلولاً واقعيّة لمجتمعات عانت صراعات أو عقود من الحكم السلطوي. وغالباً ما يفترض في مجال العدالة الانتقالية أنّ العمليات الانتقالية تتم من حكم سلطوي عنيف إلى حكم ليبرالي ديمقراطي. ولكن في الحقيقة، لا ينطبق هذا النوع من العمليات الانتقالية إلا على عدد قليل من بين العمليات الانتقالية الكثيرة التي شهدتها العقود القليلة الماضية. وتقدم السلطوية في مصر خير مثال على التحديات المتعددة التي تواجهها الجهات الفاعلة في خضم سعيها لإرساء العدالة الانتقالية في سياقات متنوعة غير ليبرالية. تمثّل العملية الانتقالية المصرية تحدياً كبيراً يعترض هذا المسار المفترض نحو الديمقراطية الليبرالية، وتقدّم عوضاً عن ذلك مثالاً قوياً عن تنوع العمليات الانتقالية والحاجة إلى الاستجابة لها بطريقة مبتكرة. تؤدي مؤسسات “الدولة العميقة” في مصر على سبيل المثال دوراً مهماً في مجتمعها الانتقالي. وهذه هي المؤسسات، بما في ذلك السلطة القضائية والشرطة وأمن الدولة وغيرها من الأجهزة الأمنية والمؤسسات السياسية، التي تشارك عادةً في السعي لإرساء العدالة الانتقالية. ولكن في السياق المصري، تستخدم مؤسسات الدولة العميقة هذه لغة العدالة الانتقالية وأدواتها لترسيخ الحكم الاستبدادي. ويشكّل ذلك الفارق الأساسي بين استخدامات العدالة الانتقالية في دولة تتحول إلى الديمقراطية ودولة يعود فيها الحكم الاستبدادي إلى الظهور مجدداً.

صحيحٌ أنّ العدالة الانتقالية تسعى إلى أخذ الماضي بالاعتبار لبناء مستقبل أفضل، إلا أنها غالباً ما تغفل عن الحالة الراهنة، التي تتمثل بمجموعة من المؤسسات الضعيفة الموروثة عن مرحلة ما قبل الانتقال. في مصر، دفعت أعمال المؤسسات السياسية الفاسدة منظمات المجتمع المدني إلى اللجوء إلى المحاكم كوسائل لتصويب الانتهاكات الاجتماعية-الاقتصادية وانتهاكات حقوق الإنسان. ولكن، ما يمكن القيام به لتحسين الوضع يتخطى ذلك. فمن دون تقييم واقعي لكيفية استخدام صناع القرار والخبراء هذه المؤسسات حالياً لإحداث التغيير المرغوب به في المستقبل، ستفشل العدالة الانتقالية.

يشير موجز السياسة هذا إلى ضرورة تحقيق العدالة الانتقالية في مصر فوراً، من دون الحاجة إلى “الانتظار” لإرساء الديموقراطية. ويكون ذلك من خلال اعتماد مقاربة العدالة الانتقالية التدريجية تعطي الأولوية لثلاثة أهداف: إعطاء الأسبقية للعدالة الاجتماعية، وتقوية المجتمع المدني، وزيادة النشاط القضائي.

أولاً، غالباً ما ترتبط الجرائم الاجتماعية والاقتصادية كالفساد على نطاق واسع بشكلٍ معقد بانتهاكات حقوق الإنسان، كالتعذيب والاعتقال التعسفي. كذلك، تعتمد الدول التي تمارس الفساد وتقترف جرائم اقتصادية سياسات تنتهك حقوق الإنسان كوسيلة لدعم الأنظمة الاستبدادية وضمان الإفلات من العقاب على هذه الجرائم. ونظراً لتاريخ تفشي الفساد على نطاق واسع في مصر، لا سيما في ما يتعلق بالعقارات، لا عجب أن ربطت المطالب الأساسية لثورة 2011 – “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” – المظالم الاجتماعية الاقتصادية بالجرائم ذات الصلة بانتهاك حقوق الإنسان. وبالتالي، لا يمكن فصل الدعوات المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية عن تلك المتعلقة بتحقيق العدالة في انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية. ثانياً، في حين يشكل المجتمع المدني أحد الدوافع الرئيسية لعمليات العدالة الانتقالية في مصر، فإنه أيضاً أحد العناصر الفاعلة الخاضعة للقمع بشكل كبير في ظلّ عودة النظام السلطوي. وبالتالي، فإنّ القوانين التي تحدّ بشكلٍ متزايد من المساحة التي تقوم فيها منظمات المجتمع المدني بعملها من شأنها أن تقوّض بشكلٍ مباشر سير عملية عدالة انتقالية حقيقية. ثالثاً، نظراً للاستخدام المبالغ للقوانين لتشكيل العدالة الانتقالية بشكلٍ تخدم فيه مصالح النظام السلطوي، يقدم النشاط القضائي استراتيجية مهمة لتحدي هذا النوع من التشريع.

يدعو هذا الموجز أيضاً إلى التركيز بشكلٍ أكبر على الجهود التي تأخذ بالاعتبار الوضع الراهن للمجتمع المدني والمؤسسات السياسية والقضائية بهدف تحسين آفاق تركيبة سلمية وأكثر عدالة لفترة ما بعد الصراع. وهو بذلك يشدد على أهمية العدالة الانتقالية كعملية بدلاً من اعتبارها نتيجة حتمية. وتصف هذه الورقة أولاً مشكلة سياسات العدالة الانتقالية في السياقات السلطوية من خلال شرح تداعيات عمليات الانتقال المختلفة والأهداف المتضاربة للعدالة الانتقالية كما تبدو حالياً. ثم تستخدم المثال المصري لتلقي الضوء على أهمية إعطاء الأسبقية للعدالة الاجتماعية ولتقوية المجتمع المدني ولرفع وتيرة النشاط القضائي في رسم سياسات العدالة الانتقالية التي من شأنها تناول الحقائق السياقية بشكلٍ أفضل. وفي الختام، يخلص الموجز بتوصيات السياسة بهذا الشأن.

عمليات الانتقال المتنوعة والأهداف المتضاربة للعدالة الانتقالية

يُثار موضوع العدالة الانتقالية بشكلٍ شبه فوري في الدول التي تشهد عمليات انتقال سياسي. يبدأ ضحايا الفظائع والمظالم الاجتماعية الاقتصادية وانتهاكات حقوق الإنسان في التماس بعض أشكال العدالة لا بل يتوقّعون تحقيقها – سواء أكانت على شكل مساءلة من خلال المحاكمات الجنائية أو التعويضات أو الإصلاحات أو لجان تقصي الحقائق. وغالباً ما يتم الترويج للأهداف الكبيرة المتمثلة في السلام والعدالة والمصالحة والإصلاح المؤسساتي على أنها حزمة العدالة الانتقالية المثالية. وكثيراً ما تُقدَّم هذه الأهداف إلى جانب برامج طموحة أخرى لإرساء الديمقراطية والمساعدة الاقتصادية في مجتمعات تشهد عملية انتقالية. وتتمثّل إحدى مشاكل التخطيط لهذه الأهداف في أنها تستند إلى افتراضات خاطئة في ما يتعلق بمسار العمليات الانتقالية الليبرالي. ومن شأن هذه الافتراضات أن تعيق تنفيذ عمليات العدالة الانتقالية في سياقات متنوعة من العمليات الانتقالية، لا سيما في البلدان التي تشهد عودة للتوجّه السلطوي.

نتيجة لذلك، تبرز العدالة الانتقالية كمجال ممارسة غالباً ما تكون أهدافه متضاربة. كما أنها تجد صعوبة في إعطاء الأولوية للأهداف القصيرة والطويلة الأمد. على سبيل المثال، غالباً ما يطالب الضحايا في المجتمعات الخارجة حديثاً من صراع عنيف بعدالة انتقامية سريعة لا بل يتوقّعونها، كما يحدث في قاعات المحاكم. بينما تعطي الجهات السياسية الداخلية والخارجية الأولوية للاستقرار، وغالباً على حساب العدالة، من أجل تحقيق سلام طويل الأمد. وتعدّ هذه الاعتبارات نموذجية عند الحديث عن السلام مقابل العدالة في هذا الصدد. وقد أصبحت هذه الثنائية تعيق بشكلٍ متزايد طرح توصيات سياسة لسياقات ما بعد الصراع. إذ لا ينحصر مفهوما “السلام” و”العدالة” بمعنى واحد، بل إنهما متعددا المعاني.

وبالتالي، فإن إطار العمل المقيّد للعمليات الانتقالية المتجهة نحو الليبرالية له تداعيات مهمة على الأبحاث وصياغة السياسات والممارسات المتعلّقة بالعدالة الانتقالية. سواء ضمن سياق التحول الديمقراطي أو العدالة الانتقالية، فإنّ المبادرات على غرار تطوير الأحزاب السياسية وإجراء الانتخابات والإصلاحات المؤسساتية لا تتوافق مع “التسلسل المنطقي” الناتج عن تحقيق الديمقراطية أو العدالة؛ بل إنها “عمليات تغيير فوضوية” لا تتبع مسار انتقال مستقيم. ويضع هذا الأمر صناع السياسة أمام معضلة، إذ يفرض الاعتماد على المقاربات القياسية التي قد حققت نجاحاً في مكان آخر من العالم حدوداً مهمة على إمكانية تطبيق العدالة الانتقالية على سياقات مختلفة، بما في ذلك مصر، حيث استولت النخب الحاكمة على عملية العدالة الانتقالية لتخدم مصالحها السلطوية.

وتواجه العدالة الانتقالية أيضاً تحديات في معالجة الصراعات الهيكلية والذي تعود جذورها إلى الفقر والجوع والفساد ونهب الموارد الطبيعية وغير ذلك. ويعكس ذلك ميل مجال العدالة الانتقالية إلى التركيز على انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية أكثر من التركيز على المظالم الاجتماعية الاقتصادية. نتيجة لذلك، يرى الكثيرون أنّ العدالة الانتقالية فشلت في تحقيق العدالة الاجتماعية ضمن معاييرها. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تدعم تقارير لجان الحقيقة ومذكراتها رواية معينة عن الماضي، وتهمش أو تتناسى روايات أخرى. وأخيراً، تشارك المؤسسات السياسية والقضائية وأجهزة أمن الدولة في العادة في دعم العدالة الانتقالية حين تكون تلك المؤسسات بالذات متورطة في الجرائم والمظالم التي تدعي السعي لمعالجتها. وهنا تكمن مشكلة تواجد مؤسسات الدولة العميقة في الدول الانتقالية مصر.

العدالة الانتقالية في مصر: مركزية العدالة الاجتماعية

منذ الإطاحة بالرئيس حسني مبارك في فبراير 2011، سعت مصر نحو العدالة الانتقالية في المقام الأول من خلال الملاحقات الجنائية. فأُحيل قادة سياسيون رفيعو المستوى – بمن فيهم مبارك وعدد من الوزراء – إلى المحاكم بتهم شملت الفساد المالي والسياسي، وكذلك قتل المتظاهرين الأبرياء خلال ثورة العام 2011 المناهضة للحكومة. في البداية، حكُم على مبارك بالسجن المؤبد في يونيو 2012 لتورطه في قتل المتظاهرين. إلا أنه تمّ إبطال الحكم بعد محاكمتين أخريين. وبعد أن أمضى بعض الوقت في السجن بتهم الفساد، أُطلِق سراح مبارك في مارس 2017. باستثناء بعض ضباط الشرطة، لم يخضع أي شخص في مصر للمساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان التي اقتُرِفت خلال ثورة 2011، ناهيك عن تلك التي اقتُرفت على مرّ عقود من الحكم السلطوي. عوضاً عن ذلك، اعتُقل آلاف المنشقين السياسيين والناشطين والصحفيين بطريقة تعسّفية وتعرّضوا للتعذيب وللإخفاء القسري خلال عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. نتيجة لذلك، استخدمت مؤسسات سياسية وقضائية في مصر العدالة الانتقالية لتحصين الحكم السلطوي ولخلق صورة وهمية للانفصال التام عن النظام السابق.

جاءت الثورة المصرية نتيجة سنوات من القمع الذي ظهر على شكل انتهاكات اقتصادية وانتهاكات حقوق الإنسان. وشملت المشاكل الاجتماعية-الاقتصادية الفقر ومعدلات البطالة المرتفعة والافتقار إلى الخدمات الصحية، وتردي ظروف العمل وقمع النقابات. وعكس تقلّص الطبقة المتوسطة زيادة في اللامساواة خلال الفترة التي سبقت الثورة المصرية. وشملت انتهاكات حقوق الإنسان التعذيب والاحتجاز التعسفي على نطاق واسع، وغيرها من التدابير القمعية ضد معارضي النظام والناشطين ووسائل الإعلام والمجتمع المدني. وسيق مئات المدنيين إلى المحاكم العسكرية وشاع استخدام أساليب التعذيب لانتزاع الاعترافات من الموقوفين. وبالتالي، كانت العوامل الدافعة لثورة العام 2011 في مصر تتعلق بالمظالم الاجتماعية والاقتصادية بقدر ما كانت تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان. إنّ مطالب العدالة الاجتماعية في مصر كانت ولا تزال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدعوات إلى حماية حقوق الإنسان.

وقد شكلت الحركات والاتحادات العمالية مصدراً رئيسياً للمعارضة خلال عهد الرئيس مبارك وهي لا تزال تؤدّي دوراً مهماً في مرحلة ما بعد الثورة. وقد قاد عمال القطاع العام للغزل والنسيج، البالغ عددهم 45 ألف عامل في مختلف أنحاء مصر، مراراً وتكراراً الاحتجاجات والإضرابات. وبرز بشكل ٍ خاص الإضراب العام الذي قاده عمال الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى في العام 2008، إذ أدى إلى تشكيل حركة شباب 6 أبريل التي تحولت إلى قوة حشدٍ نافذة. وشملت مطالب الحركة العمالية المصرية زيادة الحد الأدنى للرواتب، واستبدال عقود العمل المؤقتة بعقود دائمة، وصرف العلاوات المتأخرة، والحق بالإضراب. ويشير جول بينين إلى أنّ قوة الحركة العمالية المصرية المستقلة أو “المعارضة العمالية المناضلة” زادت في أواخر التسعينيات ونمت حتى أصبحت ثقافة احتجاج كاملة في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين مهددة شرعية نظام مبارك.

واستمرت الحركات المطالبة بحقوق العمال في مصر بتحدي سياسات الحكومة بنشاط خلال الفترة التي تلت الثورة من خلال الاحتجاج والإضراب في الشوارع، علماً أن أحدث الإضرابات هي تلك التي حصلت في فبراير ومارس 2017.

وبالتالي، برزت جرائم الفساد وبعض الجرائم الاقتصادية بشكلٍ كبير في التهم الموجهة ضد القادة السياسيين السابقين في مصر، بمن فيهم مبارك والعديد من الوزراء. بالإضافة إلى ذلك، حكمت المحكمة الإدارية لصالح الشكاوى التي أقيمت ضدّ العقود العامة الفاسدة. وفي الوقت ذاته، تمّ التوصّل إلى صفقات مصالحة مع رجال أعمال سابقين كبار، على غرار حسين سالم. وسمحت هذه الصفقات لرجال أعمال فاسدين، تربط الكثير منهم بعلاقات وثيقة بحزب مبارك السياسي، بإعادة جزء من أصولهم مقابل حصولهم على حصانة تحميهم من الملاحقة القضائية. في حين افتقرت هذه الصفقات إلى الشفافية، إلا أنها تعكس اعتراف النظام بأنّ هذه المكاسب غير مشروعة، وكذلك إقراره بضرورة القيام بشيء لمعالجتها، حتى وإن أغضبت المصالحة الكثير من المصريين. بعد ذلك، تمّ الاعتراف إلى حدّ معين من قبل الجهات القضائية والنخب بالمظالم الاجتماعية الاقتصادية خلال الفترة التي تلت الثورة من خلال تدابير العدالة الانتقالية القليلة التي اتُّخذت بالفعل. إلا أن الاستجابة المناسبة لمظالم العدالة الاجتماعية لم تكن قد تحققت بعد. وقد عنت هيمنة الجيش على الاقتصاد والمناصب البيروقراطية النافذة أن الموارد لا تزال تُستنزف بطريقة تضرّ بالفقراء. وقد أدّى ذلك إلى تزايد الاستياء من الدولة وإلى قيام “انتفاضة التموين” مؤخّراً في العديد من المدن المصرية.العدالة الانتقالية في مصر: مجتمع مدني مخنوق

صحيحٌ أنّ جهات المجتمع المدني الفاعلة تشكّل أحد المحرّكات الأساسية لعمليات العدالة الانتقالية في مصر، إلا أنّها من بين الجهات الأكثر قمعاً. يُستخدم مصطلح “المجتمع المدني” هنا ليشمل الجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية والمحامين والناشطين – الذين يدافعون جميعاً عن قضايا مشتركة. وتتمثل القضية المشتركة هنا بشكلٍ أو بآخر في تصفية حسابات الماضي، أي العدالة الانتقالية. تضاعفت التحديات التي واجهت عمل المجتمع المدني في نواحٍ عديدة منذ ثورة 2011. ففي الفترة التي تلت الثورة مباشرةً، كان المجتمع المدني من بين المجموعات الفاعلة الأولى التي استهدفتها قوانين صارمة قيّدت التمويل الخارجي وحدت من امكانية تسجيل المنظمات غير الحكومية. وصدر قانون الاحتجاج الذي أثار الكثير من الجدل في العام 2013 ليعقد أكثر قدرة المجتمع المدني على الحشد. فدفعت هذه القيود بمنظمات على غرار معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان إلى نقل برامجه الإقليمية والدولية إلى تونس، ليتمكن من متابعة عمله بعيداً عن تهديد النظام المصري بإغلاقه. كما أُغلقت مكاتب منظمات غير حكومية ومحامين عاملين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وصحفيين وناشطين وجُمّدت أصولهم ووضع زملاؤهم تحت المراقبة الشديدة أو تعرضوا للاعتقال التعسفي. ولا يزال مئات الأشخاص يُعذّبون في السجن، كما سُجِّل ارتفاعاً كبيراً في عدد حالات الاختفاء القسري في مصر في السنوات الأخيرة.

رغم حملة القمع هذه على المجتمع المدني، يقوم عدد من المحامين – الذين ينوب معظمهم عن منظمات المجتمع المدني التي تمثل الضحايا – برفع قضايا ضدّ مسؤولين حكوميين سابقين. ويتابع عدد كبير من هؤلاء المحامين قضايا في الفترة التي سبقت الثورة في مصر والفترة التي تلتها. ونشطت المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام المستقلة في مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان، وتوثيقها ونشر الوعي بين الناس بشأن هذه الانتهاكات. وهكذا، تشكّل منظمات المجتمع المدني أحد الدوافع الأساسية في العدالة الانتقالية في مصر. ومن الممكن القول إنّ ما يرتكزون عليه بشكلٍ رئيسي هو ذاكرتهم المؤسساتية الناجمة عن العمل تحت الحكم السلطوي الذي ساد قبل العام 2011 وبعده.

غالباً ما تأخذ مقاومة المجتمع المدني للانتهاكات شكل احتجاجات وإضرابات في الشارع، ولكن في مصر أصبحت تُترجم أيضاً وعلى نحوٍ متزايد من خلال المحاكم. وعلى الرغم من أنّ النظام القضائي في مصر يفتقر للشفافية ومُسيس إلى حد كبير، فقد رفع المحامون باستمرار شكاوى ضد مسؤولين حكوميين سابقين رفيعي ومتوسطي ومتدنيي المستوى، وضد ضباط شرطة ووكلاء وموظفين في أمن الدولة. كما نشطوا أيضاً في رفع الدعاوى ضدّ عقود عامة فاسدة، لا سيما تلك المرتبطة ببيع الأراضي. فأصبح التقاضي محوراً أساسياً لمحاولات المجتمع المدني الرامية إلى محاسبة كلّ من اقترف جرائم اجتماعية-اقتصادية وجرائم تنتهك حقوق الإنسان، أو على الأقل إلى كشف أوجه القصور في نظام قضائي ضعيف. وبسبب عدم وجود مكان مناسب للتعبئة وتنظيم حملات التأييد العام ورفع مستوى الوعي، لا سيما منذ تفعيل قوانين تقيّد هذه الأنشطة أكثر فأكثر، ما كان من المجتمع المدني إلا اللجوء إلى المحاكم “كمواقع نشطة للمقاومة”.العدالة الانتقالية في مصر: مشكلة استقلال القضاء

لطالما واجه استقلال القضاء في مصر تحدياً بسبب سيطرة السلطة التنفيذية على التعيينات القضائية وعلى الشؤون القضائية الأخرى. إذ سيطرت السلطة التنفيذية على تركيبة المجلس القضائي الأعلى، الذي لا تُراعي السلطة التنفيذية آراءه القانونية دائماً. فقد منع جهاز أمن الدولة، الذي أنشأته حكومة جمال عبد الناصر، النيابة العامة عن التحقيق في الجرائم التي ارتكبها مسؤولون في القطاع العام وضباط أمن الدولة. إنّ نادي القضاة هو الجهة الفاعلة الأقوى في النضال من أجل استقلال القضاء في مصر. وقد مارس نادي القضاة، الذي تأسس في العام 1939 على شكل اتحاد قضاة غير رسمي، الضغط على مدى عقود لإنهاء سيطرة السلطة التنفيذية على النظام القضائي، لا سيما من خلال التعديلات المقترحة على قانون السلطة القضائية. استمرت هذه الجهود خلال تسعينيات القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين وبلغت ذروتها مع اندلاع ثورة قضائية في العام 2005، أظهر القضاة في خلالها الغش في الانتخابات وطالبوا باستقلال القضاء من خلال المقاطعات والاعتصامات والتشهير العلني عبر وسائل الإعلام.

وطالت الانتقادات النيابة العامة أيضاً لتواطئها مع الشرطة، الأمر الذي أحبط التوقعات بإجراء محاكمات عادلة. فعلى سبيل المثال، لما كانت الشرطة في أغلب الأحيان متورطة في ارتكاب جرائم تعذيب، اتُهِمت النيابة العامة بتأخير عمل الطب الشرعي بما يُعطي الوقت لشفاء جروح الموقوفين الناتجة عن التعذيب. بالإضافة إلى ذلك، تربط النيابة العامة علاقات سياسية قوية مع أجهزة أمن الدولة، بما في ذلك وزارة الداخلية ووزارة العدل، الأمر الذي يثير مخاوف جدية بشأن قدرة النظام القضائي على إصدار أحكام قضائية مستقلة.

إلا أن سياسة النظام القضائي في مصر هي أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. فعلى سبيل المثال، يبيّن تامر مصطفى كيف نجح المحامون الذين تحدّوا بشكل مستمر القانون من خلال المحكمة الدستورية العليا عبر تسعينيات القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين في كشف التناقضات بين خطاب النظام الذي ينادي بـ “سيادة القانون” وأعمال المحاكم الفعلية. ويصف ناثان براون مواقف المحكمة الدستورية العليا بأنها نشطة ومرنة، في إشارة إلى ميلها إلى الحكم لصالح سياسات النظام وأيضاً ضدها. وحتى في الحالات التي يكون فيها قرار المحكمة ضد النظام، فإنها تقوم بذلك بطريقة لا تهدد “مصالح النظام الأساسية”. والأهم من ذلك هو أن المحاكم كانت ولا تزال تُستخدم من قبل نظام مبارك ونظام السيسي وكذلك خصومهما. فقد استخدم نظاما مبارك والسيسي المحاكم كوسيلة لفرض القيود على الحياة السياسية، في حين أن خصومهما استخدموها لتحدي الدولة. وبالتالي، يدلّ استخدام المحاكم في مصر للقضايا الكبيرة والصغيرة على أنّ السلطوية ومقاومتها قد اتخذت شكلاً قانونياً إلى حدّ كبير.

وفي عهد الرئيس السيسي، استمر هذا الاتجاه يحصد نتائج مماثلة. فسرعان ما سُنّت قوانين كتلك التي تفرض قيوداً صارمة على حرية التجمع وعلى منظمات المجتمع المدني. بالمقابل، تحدت المحاكم بعض قرارات السلطة التنفيذية، لا سيما القرار الصادر خلال اجتماع بين الرئيس السيسي والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لنقل سيادة جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر من مصر إلى المملكة العربية السعودية. وفي يناير 2017، أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكماً نهائياً بأنّ الجزيرتين مصريتان. واعتُبر هذا الحكم بمثابة انتصار للمجتمع المدني ومعارضي النظام، لا سيما في ظل اعتراض شعبي هائل على تسليم الجزيرتين إلى المملكة العربية السعودية.

ولكن منذ صدور ذلك الحكم، استمرت المشاحنات القانونية حول دستورية نقل سيادة الجزيرتين إلى المملكة العربية السعودية، وكذلك حول المحكمة التي يتعين أن تنظر في المسألة. صحيحٌ أن نظام المحاكم المصرية قد أثبت مستوىً معيناً من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، إلا أنه لم يتوصّل في الكثير من الأحيان إلى تهديد النظام بحد ذاته. ويعني ذلك، كما تبيّن سحر عزيز، أن القضاء لا يزال يشكّل “مؤسسة موقرة من مؤسسات الدولة العميقة”.سياسة العدالة الانتقالية في ظل الأنظمة السلطوية: بعض الاعتبارات

إنّ المعضلة الأساسية لما يُسمى بدول الربيع العربي التي تشهد فترة انتقالية كمصر، تتعلّق باستخدام المؤسسات السلطوية في الدولة العميقة لبناء عقد اجتماعي حقيقي. وتُشكّل العدالة الانتقالية إحدى المبادرات المتعددة المتبعة بهدف تحقيق الأهداف الكبرى المتمثلة في السلام والعدالة والمصالحة وسيادة القانون والإصلاح المؤسساتي. كما سبق وأشرنا، تستند هذه البرامج على الافتراض الخاطئ بأن الانتقالات كافة تؤدي إلى الديمقراطية الليبرالية أو تسعى إلى ذلك. ونظراً لتوجهات الانتقالات المتنوعة، وكذلك التوترات بين أهداف العدالة الانتقالية المختلفة، زادت الأدبيات الناقدة للعدالة الانتقالية كثيراً في السنوات الأخيرة.

إلا أن العدالة الانتقالية الناقدة بقيت إلى حد كبير محصورة بالعمل البحثي. وقد حان الوقت لترجمتها في الممارسة الفعلية، لا سيما وأن السياسة موضوع محوري في مجال العدالة الانتقالية. وتطبّق توصيات موجز السياسة هذا بعضاً من هذه المقاربات النقدية في ممارسة العدالة الاجتماعية في ظل الأنظمة السلطوية، مع التركيز على حالة مصر. وهي بذلك تنطلق من المقاربات القياسية المستخدمة حتى الآن، وتدرس بدلاً من ذلك أفضل طريقة للاستفادة من المؤسسات الموجودة تحت بيئة سلطوية لبناء أساس لعملية عدالة انتقالية حقيقية. إلا أنّ توصيات السياسة لا تلمح بأن مبادرات تحقيق الديمقراطية لا جدوى منها. بل تركّز بدلاً من ذلك على خيارات السياسة على المدى الفوري، من دون الحاجة إلى “انتظار” تحقيق الديمقراطية.

أولاً نظراً لمركزية المظالم الاجتماعية-الاقتصادية في مصر، يُعتبر إعطاء الأولوية للعدالة الاجتماعية من خلال المسائلة القانونية أمراً أساسياً. في مصر، يدير الجيش “امبراطورية تجارية” بالإضافة أنه يحكم البلاد فعلياً. بالتالي، فإنّ المساءلة في ما يتعلق بتوزيع الموارد بشكلٍ يضر بالفقراء تشكّل مكوناً أساسياً لاستراتيجية عدالة انتقالية تتناول الظلم الاجتماعي في مصر؛ وهو أمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحماية الحقوق المدنية والانتقالية. نجحت منظمات المجتمع المدني، على غرار المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومركز هشام مبارك للقانون، على سبيل المثال، في رفع قضايا أمام المحاكم الإدارية لحلّ مشكلة العقود الفاسدة. ويُعتبر هذا الأمر مهماً بشكلٍ خاص في ما يتعلق بعقود العقارات التي تعطي الأولوية لبيع الأراضي بسعرٍ أدنى من سعر السوق لرجال أعمال يستخدمون هذه الأراضي لاحقاً لبناء منازل فخمة تعود بالفائدة على الأغنياء. وتضرّ هذه العقود الفاسدة إلى حد كبير بملايين المصريين الذين لا يحصلون على السكن والخدمات العامة، بينما تؤدي إلى تفاقم الفساد وعدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية.

ثانياً، من شأن تعزيز منظمات المجتمع المدني أن تحفّز جهود العدالة الانتقالية، لا سيما وأنها أثبتت مراراً وتكراراً دورها كمحرك أساسي نحو التغيير، بخاصة ضمن سياقات الأنظمة السلطوية. وبالتالي، فإنّ عمل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني أمرٌ حاسم ً في ما يتعلق بتحدي السياسات السلطوية وتحديد أولويات المواطنين العاديين والدفاع عنها. وهذا أقلّ ما في الأمر لأن الذاكرة المؤسساتية للمجتمع المدني عانت في ظلّ عقود من الحكم السلطوي، ثمّ اضطرت إلى إعادة توجيه نضالها في ظلّ عودة الحكم السلطوي بعد الثورة. إلا أنّ هذه المهمة تصعب أكثر في ظل مجتمع مدني مقموع. ويشير أحد التقارير إلى أن الأغلبية العظمى من ممثلي المجتمع المدني يشيرون إلى أنّ القيود التشريعية هي العائق الأكبر في وجه عملهم. حتى هذا الوقت، كان المجتمع المدني أحد الأهداف الرئيسية للحكومة المصرية في حملتها ضدّ المعارضة عقب خلع مبارك. وقد بدا ذلك واضحاً بشكلٍ خاص من خلال سنّ قوانين قاسية تقيّد تسجيل المنظمات غير الحكومية وتمويلها كما ذُكِر أعلاه، وفي الاعتقالات التعسفية على نطاق واسع بحق الناشطين والمحامين والصحفيين وحالات الإخفاء القسري. وقد ساهم ذلك في استمرار معارضة الدولة وزاد من الاستياء والمقاومة في أوساط الجهات الفاعلة في المجتمع المدني. سيستمر هذا الوضع، بالإضافة إلى تردّي الظروف الاقتصادية، في إضعاف استقرار الدولة. وبالتالي، فإنه من مصلحة الدولة أن تشجع مجتمعاً مدنياً قوياً ومستقلاً يعمل أيضاً كشريك حقيقي في تحديد حاجات المصريين، بينما يعيد بناء مؤسسات الدولة. من هنا، فإنّ إصلاح القوانين التي تنظّم المجتمع المدني هي خطوة أولى مهمة نحو تحقيق هذا الهدف.

ثالثاً، لقد أثبتت التجارب أنّ الاستفادة من عناصر مستقلة في النظام القضائي يُمكن أن تُحدث التغيير المرغوب، لا سيما من أجل التحقق من السلطة التنفيذية. ولا بدّ أن يشكل ذلك أيضاً استراتيجية لمرحلة ما بعد الانتقال تستجيب لاحتياجات الناس الاجتماعية والاقتصادية اليومية وكذلك المساءلة الجنائية عن انتهاكات حقوق الإنسان. ولا بد من الإشارة إلى أنّ الرغبة لإرساء عدالة جزائية أمرٌ طبيعيّ في عدد كبير من المجتمعات التي تشهد انتقالاً. وفي محاولة للمضي قدماً، يفضل عدد من الضحايا وأسرهم إرساء العدالة بشأن الفظائع التي ارتُكبت في الماضي في قاعات المحاكم. في حين أن هذه التوقعات قد تضعف أو تتغير مع مرور الوقت، إلا أنه من الضروري أخذها بالاعتبار بجدية، بدلاً من استخدام خطاب “طي صفحة الماضي”. إنّ مشاعر الاستياء والغضب هي مشاعر سلبية، إلا أنها “مفهومة سياسياً” ولا بدّ أن تشكل جزءاً من أي عملية لتطبيق العدالة الانتقالية، سواء أكانت ديمقراطية أم لا. صحيحٌ أنّ تسييس النظام القضائي في مصر يسببّ الكثير من المشاكل؛ إلا أنّ بعض عناصره، حتى في أعلى المستويات، قد تحدّت الدولة. علاوةً على ذلك، واظب محامون يمثلون ضحايا جرائم انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاكات اجتماعية-اقتصادية على رفع قضايا ضدّ نشاطات مسؤولين حكوميين وضباط الشرطة. وقد طعنوا أيضاً خلال حكم مبارك بدستورية القوانين القمعية. وكان التقاضي الذي مارسه النشطاء سائداً في تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين، لا سيما وأنه شكّل بديلاً عملياً للتعبئة الاجتماعية والاحتجاجات، التي تعرّضت للقمع على الدوام. ومع عودة الحكم السلطوي في الفترة التي تلت الثورة المصرية في العام 2011، استؤنفت عمليات التقاضي ومن المتوقع أن تزيد أكثر فأكثر.

التوصيات:

وفي ضوء الاعتبارات والتحليلات الملخّصة أعلاه في ما يتعلق بسياسات العدالة الانتقالية في سياق الأنظمة السلطوية، نقدّم توصيات السياسة التالية إلى قادة المجتمع المدني والسلطات الحكومية والاختصاصيين القانونيين:

إعطاء الأولوية للعدالة الاجتماعية من خلال تعزيز المساءلة القانونية: لا بد أن يواصل المحامون الناشطون استهداف الفساد من خلال الدعاوى القضائية التي تطالب بإلغاء العقود العامة الفاسدة، علماً أنّه من الصعب جداً مساءلة الأشخاص المسؤولين عن تلك العقود الفاسدة قانونياً، نظراً لأن المحاكم الجنائية تمتنع عن متابعة التحقيقات بهذا الشأن. ولكن لا بدّ أن تبقى مواصلة الجهود في هذا الصدد أولوية، أقله لما لها من قدرة على كشف طبيعة العقود الفاسدة. فالنجاح الجزئي الذي حققه المحامون مع المحكمة الإدارية، على سبيل المثال، غاية في الأهمية لأنه يدل على أنّ بعض الفاعلين في النظام القضائي قد حافظوا على قدرٍ من الاستقلالية في أحكامهم ذات صلة بالعقود الفاسدة بشكلٍ خاص والعدالة الاجتماعية بشكلٍ عام.

إلغاء القوانين القمعية التي تحكم المجتمع المدني: لا بد أن يشكّل استخدام المحاكم لتفكيك القوانين التي تقمع المجتمع المدني محور استراتيجية المجتمع المدني الرامية إلى تعزيز كيانه وتحقيق استقلاليته. وبصفةٍ خاصة، يجب رفع القيود المفروضة بموجب القانون رقم 84 الصادر في العام 2002 بشأن المنظمات غير الحكومية، إذ يستمر هذا القانون الصادر في عهد مبارك في قمع قدرة المجتمع المدني على العمل كما أنه يفرض قيوداً تعسفية على تلقّي المنظمات غير الحكومية تمويلاً أجنبياً. كما فرض قانون رقم 107 الصادر في العام 2013 الخاص بالحق في تنظيم الاجتماعات العامة والمسيرات والتظاهرات السلمية مزيداً من القيود. علاوةً على ذلك، تتناقض هذه القوانين مع أحكام الدستور. فالمجتمع المدني الذي يُعتبر شريكاً للدولة، ولا سيما في سياق انتقالي، مهم جداً لبناء عقد اجتماعي هادف ولأي عملية عدالة اجتماعية حقيقية.

الإفراج عن المعتقلين لبناء الثقة بين المجتمع المدني والدولة: سيتطلب تحويل العلاقة بين المجتمع المدني والدولة من العدائية إلى شراكة حقيقيةٍ تركيزاً رئيسياً على المصالحة. وهذا لا يشير الى المصالحة على المستوى المجتمعي حيث يتصالح الضحايا ومرتكبو الجرائم. بل يشير بالأحرى إلى إصلاح العلاقة بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية التي تقمع هذه المنظمات باستمرار. وينبغي أن تبدأ عملية مماثلة بإطلاق سراح قادة المجتمع المدني المحتجزين بصورةٍ غير قانونية وبالتزامٍ واضح من جانب الدولة بوقف الاعتقالات التعسفية بحق الذين يعبّرون عن معارضتهم بوسائل سلمية. وبالتالي، فإن الإفراج عن المحتجزين سيشكل في حدّ ذاته عملية عدالة انتقالية وسيساعد على تقوية العلاقات المتضررة بين المجتمع المدني والدولة.

العمل على توقعات الضحايا بتحقيق العدالة: إنّ السعي إلى تحقيق العدالة الجزائية من خلال محاكمات عادلة أمر مستحيل في سياق عودة الحكم السلطوي والنظام القضائي المسيّس. وبالتالي، ينبغي على الجهات الفاعلة في المجتمع المدني المصري الضليعة في مجال العدالة الانتقالية أن تساعد في إدارة توقعات الضحايا وعائلاتهم لتحقيق العدالة من خلال اعتماد استراتيجية تقوم على ثلاث ركائز. أولاً، لا بد أن تتابع هذه الجهات التوثيق المنهجي للانتهاكات من أجل جمع الأدلة والشهادات التي يمكن استخدامها لأغراض المساءلة في المستقبل. ثانياً، نظراً لأهمية العمل مع الدولة، حتى في سياقٍ سلطوي، لا بدّ أن تحثّ هذه الجهات على تقديم الاعتذارات العلنية وإنشاء صندوق للتعويضات وإقامة النصب التذكارية تكريماً للضحايا. ثالثاً، لا بدّ أن تستمر هذه الجهات في رفع قضايا أمام المحاكم ضد مرتكبي الجرائم. سيقدم القسم التالي شرحاً وافياً عن هذه النقطة الثالثة.

زيادة وتيرة النشاط القضائي من خلال تكثيف التقاضي: ينبغي أن يتم تكثيف نشاط التقاضي الذي شهدته تسعينيات القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين كاستراتيجية رئيسية للجهات الفاعلة في المجتمع المدني. بالإضافة الى ذلك، يتعين على القضاة أن يواصلوا تحدي سيطرة السلطة التنفيذية على الشؤون والأحكام القضائية، وذلك عن طريق اتخاذ ثلاثة تدابير محددة من شأنها أن تساعد في نهاية المطاف في تعزيز دور المجتمع المدني كشريك للدولة ومراقب لها. أولاً، لا يجب أن يكون الطعن بالمحاكمات العسكرية للمدنيين من قبل هؤلاء المدنيين فحسب، بل أيضاً من قبل القضاء العادي بصفته المكان الصحيح لمحاكمة المدنيين. ففي العام 2011 وحده، أكد الجيش المصري أنّ نحو 12000 مدني قد اعتُقِلوا وتمت محاكمتهم عسكرياً بتهمة ارتكاب مجموعة من الجرائم. لقد وسّع نظام المحاكم الموازي الذي يديره الجيش نطاقه إلى حدّ كبير، الأمر الذي يؤكد وجهة النظر القائلة بأن النظام المدعوم من الجيش لا يقبل المعارضة السياسية السلمية. ثانياً، يجب على القضاء أن يرفض القوانين القمعية المتعلقة بالمجتمع المدني والتي تتناقض مع أحكام الدستور. ثالثاً، يتعين على القضاء العمل على ضمان الإفراج عن الناشطين والصحفيين والمحامين وغيرهم من المعارضين السياسيين المحتجزين بشكل غير قانوني. وكما ذُكِر أعلاه، إنّ أهمية هذا التدبير الرمزية سيساهم في جهود المصالحة التي من شأنها أن تساعد في بناء شراكة حقيقية بين المجتمع المدني والدولة. صحيحٌ أنه من غير الواقعي أن نتوقع أن يقبل القضاة المتحالفين سياسياً مع النظام بهذه التدابير، إلا أنه من الممكن اعتماد استراتيجيات أخرى. ومن بين هذه الاستراتيجيات نذكر استخدام وسائل الإعلام – لا سيما من قبل قضاة متقاعدين إنما نافذين لا يخشون خطر الإقالة – وهي طريقة فعالة تساهم في رفع مستوى الوعي وتحدي إساءة استخدام النظام القضائي لحماية مصالح الأنظمة السلطوية. ومن شأن بروز وسائل إعلام مستقلة في مصر ما بعد العام 2011 أن يسهّل ذلك كثيراً.

الخاتمة

تتميّز العمليات الانتقالية في مصر والعديد من بلدان الربيع العربي الأخرى بعمليات انتقالية مرنة لتحقيق الديمقراطية الليبرالية، بدلاً من المسارات المستقيمة الجامدة. ونتيجةً لذلك، فإن الإطار الزمني للعدالة الانتقالية غير واضح.

وبالتالي، من المهم إعطاء الأسبقية للمؤسسات الموجودة حالياً عند صياغة سياسات العدالة الانتقالية، من دون إغفال ما يمكن للعدالة الانتقالية أن تحقق على صعيد التطلع إلى الأمام والإصلاح. ويتطلب ذلك، على وجه التحديد، التركيز على ما يمكن أن تقوم به منظمات المجتمع المدني والجهات القضائية الفاعلة حالياً من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وإرساء درجة من المساءلة والمصالحة. وهذه كلها عناصر مهمة في سياق انتقالي.

ومن شأن تحويل العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني إلى شراكة حقيقية أن يعزّز استقرار الدولة. كذلك، إنّ الإفراج عن المحتجزين من خلال التقاضي الذي يقوم به كلّ من المحامين الفرديين والقضاة المستقلين سيساعد على تسهيل تحقيق هذا التحول. كما أن استمرار المساءلة القانونية عن الفساد سيساعد على وضع حد لممارسته على المدى الطويل. فالسلام والعدالة والإصلاح المؤسساتي هي أهداف هامة، ولكن لا يجب وضعها كأهداف ينبغي تحقيقها بسرعة عن طريق مؤسسات ضعيفة ومسيّسة، إذ سيؤدي ذلك حتماً إلى خيبة أمل المجتمع الانتقالي. وبالتالي، إنّ استمرار الدولة العميقة في مصر وفي دول أخرى من المنطقة يعني أنه من الضروري جداً إعطاء الأسبقية لتحقيق الأهداف التدريجية الرامية لبلوغ المساءلة والعدالة الاجتماعية ومجتمع مدني أقوى.

  • Footnotes
    1. تُعتبر العدالة الانتقالية عموماً أنها مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية لمعالجة الفظائع التي ارتُكبت في الماضي، كما أنّها تأتي بأشكال متعددة، بما في ذلك الملاحقات الجنائية، والتدقيق في البيانات، ولجان تقصي الحقائق، والتعويضات وغير ذلك من أساليب المصالحة الوطنية. راجع على سبيل المثال Kirsten J. Fisher and Robert Stewart, eds., Transitional Justice and the Arab Spring (London and New York: Routledge, 2014), 1.
    2. Thomas Carothers, “The End of the Transition Paradigm,” Journal of Democracy 13, no. 1 (January 2002): 5-21, doi: https://doi.org/10.1353/jod.2002.0003.
    3. Noha Aboueldahab, Transitional Justice and the Prosecution of Political Leaders in the Arab Region. A Comparative Study of Egypt, Libya, Tunisia, and Yemen (Oxford: Hart Publishing, 2017).
    4. Bronwyn Anne Leebaw, “The Irreconcilable Goals of Transitional Justice,” Human Rights Quarterly 30, no. 1 (2008): 95-118.
    5. Carothers, “The End of the Transition Paradigm,”15.
    6. المرجع ذاته.
    7. راجع على سبيل المثال، Lars Waldorf, “Anticipating the Past? Transitional Justice and Socio-Economic Wrongs,” Social and Legal Studies 21, no. 2 (2012): 171-186, doi: https://doi.org/10.1177/0964663911435827؛ Lisa LaPlante, “Transitional Justice and Peace Building: Diagnosing and Addressing the Socioeconomic Roots of Violence through a Human Rights Framework,” International Journal of Transitional Justice 2, no. 3 (2008): 331-355؛ Dustin N. Sharp, “Addressing Economic Violence in Times of Transition: Toward a Positive-Peace Paradigm for Transitional Justice,” Fordham International Law Journal 35 (2012): 780؛ Hannah Franzki and Maria Carolina Olarte, “The Political Economy of Transitional Justice. A Critical theory Perspective” in Transitional Justice Theories, eds. Susanne Buckley-Zistel, Teresa Koloma Beck, Christian Braun and Friederike Mieth (London: Routledge, 2014).
    8. تغيّر اسم وزارة العدالة الانتقالية في مصر أربع مرات منذ تأسيسها في العام 2011. وأدى حلف يمين الحكومة الجديدة في سبتمبر 2015 إلى إلغاء هذه الوزارة كلياً. وقد ذهب المعلقون بعيداً، فوصفوا هذه الخطوة كإشارة إلى “أن عملية العدالة الانتقالية في البلاد قد انتهت”، راجع Elisa Miller, “A Close Look at the Changes to Egypt’s Ministries,” Atlantic Council, October 1, 2015, www.atlanticcouncil.org/blogs/egyptsource/a-close-look-at-the-changes-to-egypt-s-ministries; “Egypt’s New Cabinet: What Changed and What Didn’t?” Mada Masr, September 19, 2015, www.madamasr.com/news/%E2%80%8Begypts-new-cabinet-what-changed-and-what-didn’t.
    9. “Inequality, Uprisings, and Conflict in the Arab World,” World Bank, October 2015, http://documents.worldbank.org/curated/en/303441467992017147/Inequality-uprisings-and-conflict-in-the-Arab-World.
    10. Aboueldahab, Transitional Justice and the Prosecution of Political Leaders in the Arab Region.
    11. Joel Beinin, “The Rise of Egypt’s Workers,” Carnegie Endowment for International Peace, June 28, 2012, http://carnegieendowment.org/2012/06/28/rise-of-egypt-s-workers-pub-48689.
    12. Zainab Abul-Magd, “Egypt’s Coming Revolt of the Poor,” Foreign Policy, March 31, 2017, https://foreignpolicy.com/2017/03/31/egypts-coming-revolt-of-the-poor/; “Mahalla Textile Workers Initiate Partial Strike, Warn of Comprehensive Industrial Action,” Mada Masr February 7, 2017, http://www.madamasr.com/en/2017/02/07/news/u/mahalla-textile-workers-initiate-partial-strike-warn-of-comprehensive-industrial-action; Salma Shukrallah and Randa Ali, “Post-revolution Labour Strikes, Social Struggles on Rise in Egypt: Report,” Ahram Online, April 29, 2013, http://english.ahram.org.eg/News/70384.aspx.
    13. Nadia Ahmed, “Show Me the Money: The Many Trials of Mubarak’s Men,” Mada Masr, January 24, 2015, http://www.madamasr.com/en/2015/01/24/feature/politics/show-me-the-money-the-many-trials-of-mubaraks-men/.
    14. Heba Afify, “Money without Truth: Egypt’s Reconciliation Deal with Mubarak-era Tycoon,” Mada Masr, August 3, 2016, https://www.madamasr.com/en/2016/08/03/feature/politics/money-without-truth-egypts-reconciliation-deal-with-mubarak-era-tycoon/. حسين سالم هو مقرب من مبارك ورجل أعمال اتُّهِم في قضية اتفاقية الغاز الإسرائيلي وبقضية بيع الكهرباء، والتي بدد بسببها هو وغيره من حلفاء مبارك مليارات الجنيهات المصرية.
    15. Abul-Magd, “Egypt’s Coming Revolt of the Poor.”
    16. قانون رقم 107 (2013) حول الحق بتنظيم اجتماعات عامة ومواكب وتظاهرات سلمية. وقانون رقم 84 (2002) حول المنظمات غير الحكومية هو قانون يعود إلى حقبة مبارك ولا يزال يفرض قيوداً على قدرة المجتمع المدني على العمل ويفرض قيوداً اعتباطية على حصول المجتمعات غير الحكومية على تمويل خارجي.
    17. “Egypt: Unprecedented Crackdown on NGOs,” March 23, 2016, Amnesty International, https://www.amnesty.org/en/press-releases/2016/03/egypt-unprecedented-crackdown-on-ngos/، Shahira Amin, “Egypt’s Shrinking Space for Civil Society,” Al Monitor, December 12, 2016, http://www.al-monitor.com/pulse/en/originals/2016/12/egypt-clampdown-civil-society-ngos-funding.html.
    18. Egypt: Hundreds Disappeared and Tortured Amid Wave of Brutal Repression,” Amnesty International, July 13, 2016, https://www.amnesty.org/en/latest/news/2016/07/egypt-hundreds-disappeared-and-tortured-amid-wave-of-brutal-repression/.
    19. Noha Aboueldahab, “Navigating the Storm: Civil Society and Ambiguous Transitions in Egypt, Libya and Tunisia,” in Advocating Transitional Justice in Africa: The Role of Civil Society, eds. Jasmina Brankovic and Hugo van der Merwe (London: Springer, Forthcoming 2017).
    20. Tamir Moustafa, “Law and Courts in Authoritarian Regimes,” Annual Review of Law and Social Science 10 (2014): 281-299, doi: https://doi.org/10.1146/annurev-lawsocsci-110413-030532.
    21. المرجع ذاته.
    22. Abdallah Khalil, “The General Prosecutor between the Judicial and Executive Authorities,” in Judges and Political Reform in Egypt, ed. Nathalie Bernard-Maugiron (Cairo, AUC Press: 2009).
    23. المرجع ذاته، ص67.
    24. Tamir Moustafa, “Law in the Egyptian Revolt,” Middle East Law and Governance 3 (2011): 181-191.
    25. Nathan Brown, “Judicial Militancy within Red Lines,” Carnegie Endowment for International Peace, November 2, 2016, http://carnegieendowment.org/publications/?fa=64999.
    26. القانون رقم 107 (2013) بشأن الحق بعقد اجتماعات عامة، والمسيرات والتظاهرات السلمية والقانون رقم 84 (2002) بشأن المنظمات غير الحكومية.
    27. Reuters, “Egypt Police Suppress Protests Against Sisi Government,” The Guardian, April 25, 2016, https://www.theguardian.com/world/2016/apr/25/cairo-protests-egypt-red-sea-islands-saudi-arabia.
    28. The Tahrir Institute for Middle East Policy, “Tiran and Sanafir: Developments, Dynamics and Implications,” August 9, 2017, https://timep.org/special-reports/tiran-and-sanafir-developments-dynamics-and-implications/.
    29. Sahar Aziz, “Theater or Transitional Justice: Reforming the Judiciary in Egypt,” in Transitional Justice in the Middle East, ed. Chandra Lekha Sriram, (New York: OUP, 2016), 233.
    30. Catherine Turner, Violence, Law and the Impossibility of Transitional Justice, (Oxford: Routledge, 2016).
    31. Abul-Magd, “Egypt’s Coming Revolt of the Poor.”
    32. للاطلاع على المزيد في ما يتعلق بهذه القضايا، راجع Aboueldahab, Transitional Justice and the Prosecution of Political Leaders in the Arab Region…
    33. Mohamed Elagati, “Foreign Funding in Egypt After the Revolution,” FRIDE (2013): 10-11, http://fride.org/download/wp_egypt.pdf.
    34. Judy Barsalou and Barry Knight, “Delayed and Denied: Egyptian Expectations about Justice and Accountability in Post-Mubarak Egypt,”July, 2014.
      http://judybarsalou.com//wp-content/uploads/2017/08/Delayed-and-Denied-Survey-Paper.pdf.
    35. بينما تناقش ميهاييلا ميهاي أهمية المشاعر السلبية في الثقافة العاطفية الديمقراطية، أرى أنها تشكل جزءاً مهماً من أي مجتمع انتقالي، سواء أديمقراطية كان أم لا. Mihaela Mihai, Negative Emotions and Transitional Justice, (New York, Columbia University Press: 2016): 16.
    36. للاطلاع على تحليل لتداعيات القيود على التمويل الأجنبي، راجع Elagati, “Foreign funding in Egypt after the revolution”.
    37. سعى الجيش إلى تبرير صلاحيته الواسعة من خلال الاستعانة بقانون الطوارئ في مصر، الذي كان لا يزال مطبقاً حين جرت عمليات الاعتقال. راجع “Egypt: Retry or Free 12,000 After Unfair Military Trials,” September 10, 2011, Human Rights Watch, https://www.hrw.org/news/2011/09/10/egypt-retry-or-free-12000-after-unfair-military-trials.
    38. Turner, Violence, Law and the Impossibility of Transitional Justice.